فكر

الأمير تميم.. الاستثناء العربي الذي لم يتخلَّ عن السوريين

سبتمبر 25, 2025

الأمير تميم.. الاستثناء العربي الذي لم يتخلَّ عن السوريين

في انطلاق أولى صرخات الحرية للسوريين عام 2011، مرّ الموقف العربي الرسمي تجاه قضية الشعب السوري بفتراتٍ متفاوتة بين صمتٍ أو تخلٍّ، من خلال انشغال معظم الدول العربية بمصالح استراتيجية ومناكفات إقليمية وعلاقات دبلوماسية، ليبقى السوريون أمام مأساتهم اليومية خلال الثورة من “حرب، تهجير، حصار، تدمير للبنى التحتية”، بينما بقي صوت واحد تمايز في هذا المزيج الحاد “صوت أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني”، فرغم تخلّي الجميع وانحسار قضية الشعب السوري وسط رياحٍ مضادة وتحدياتٍ خارجية جمّة، كان مدافعاً واضحاً صريحاً -كما عرفناه- عن حقوق السوريين وثورتهم التي تُطالب بالحريّة والكرامة، وقد ظهر ذلك جلياً في مناسبات عديدة.

 

 والأمثلة كثيرة في ذاكرة السوريين وليس آخرها المنحة القطريّة بمقدار 87 مليون دولار لتسديد رواتبِ الموظفين المدنيين لسوريا “باستثناء العسكريين” ولمدة 3 أشهر، بمعدل 29 مليون دولار شهرياً، وقد غطّت هذه المنحة قطاعات واسعة كالتعليم والصحة والشؤون الاجتماعية والمتقاعدين.

كانت قطر أولى الدول العربية التي فتحت سفارتها في دمشق بعد 13 عاماً من الانقطاع ورفع علم قطر فيها، كما أنّ إعادة فتح سفارة قطر في دمشق بعد 13 عامًا من الانقطاع، ثمّ رفع علمها عليها، والزيارة الرسمية للأمير تميم إلى سوريا في كانون الثاني/ يناير 2025، كأول رئيس عربي يفعل ذلك بعد تحرير سوريا من نظام الأسد البائد، كلّها خطواتٌ ملموسة تُكمل الخطاب والدعم.

 

وحتى الرمزية كان لها حضور ووقعٌ خاص: في كانون الأول/ ديسمبر 2016، إذ أصدر الأمير تميم مرسومًا بإضاءة معالم وشوارع قطر بألوان علم الثورة السورية، تضامنًا مع الشعب السوري في حلب.

 

في وسط هذا الصمت العربي الطويل، يبرز السؤال: لماذا بقيت قطر متمسكة بهذا الخطاب الداعم للشعب السوري؟ ما الذي يجعل صوت الأمير تميم مختلفًا، وما الذي دفعه كي يعطي لمسألة الدعم السوري تلك الأولوية على مدى السنوات الأخيرة؟

 

 

موقف قطر الرسمي والشعبي

خلال السنوات الماضيّة بقي الموقف القطري الرسمي تجاه سوريا خارجاً عن المألوف العربي العام، فبعدما انجرفت عواصم كثيرة إلى التطبيعِ مع نظامِ الأسد البائد أو التزمت بعضها الصمت تجاه المأساة السورية في حرب الإبادة بحقهم، لم يلتفت الأمير “تميم” للتداعيات الجديدة، بل اختار أن يُكرر خطابه وتصريحاتهِ التي أكدت أن مأساة الشعب السوري لم تنتهِ بزوال نظام الأسد فحسب، بل هي بحاجةٍ لالتزامٍ طويل الأمد من الأشقاء العرب، ففي خطابه عام 2022 أمام الجمعيّة العامة للأمم المتحدّة شدّد على أنّ المجتمع الدولي “لا يملك ترف تجاهل معاناة السوريين”، ثم عاد ليؤكد في 2024 أنّ “سوريا تستحق أن تُعاد إليها كرامتها قبل أن تُعاد إليها مقاعدها في الجامعة العربية”، مثل هذه التصريحات النادرة جعلت صوته يبدو نشازًا بالنسبة لقاعة عربية مزدحمة بالتجاهل أو التبرير.

 

تلك التصريحات والمواقف الرسمية لم تنعكس ببرودٍ على الأرض، بل تماهت مع نبض الشارع القطري، فالمجتمع المدني القطري “من جمعياتٍ خيرية ومنظمات إغاثية” كان حاضراً على الأرض بين السوريين في مخيماتهم شمال سوريا، من خلال بناء المستشفيات والقرى والمدارس وتقديم المساعدات العاجلة، هذا التوازي للخطاب الرسمي من جهة والدعم الشعبي من جهة أخرى، أعطى الموقف القطري مصداقيّة مضاعفة، خصوصاً عند السوريين الذين شاهدوا خيبات كبيرة مع أنظمة عربية أخرى من خلال رفع الشعارات التي لم تترجم لأفعال.

 

فعندما انتقل الملف السوري في العواصم العربية الأخرى من ملفٍ أخلاقيّ نبيل إلى ورقةِ مساومةٍ إقليمية، ظهرت الدوحة جليّة ومتفردةً في تعاملها مع الملف بوصفهِ التزاماً أخلاقياً لا ورقة سياسية فحسب، فقد تُلام على حساباتها أو ضيق إمكاناتها الجغرافية، لكن يصعب إنكار أنّ خطاب الأمير تميم ظلّ يذكّر الجميع بأنّ وراء المأساة السورية بشرًا لهم حق الحياة والحرية، لا مجرد ملف تفاوضي على طاولات مغلقة.

 

 

الدعم العملي للثورة السورية

إنّ الدعم القطري للثورة السورية لم يبقَ حبيس الشعارات والخطابات الرسميّة، بل تعمّق لخطوات عملية تركت أثراً سياسياً ورمزياً عميقاً لدى السوريين، في شباط/ فبراير 2013 عندما كان يتأرجح الموقف العربي، بادرت الدوحة إلى تسليم مبنى السفارةِ السورية في قطر إلى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، ورفعت علم الثورة، تلك الخطوة ما كانت عبارة عن إجراء بروتوكولي، إنّما إعلان صريح بأنّ شرعية نظام الأسد تتهاوى، وثمة بديل سياسي يجد اعترافاً ودعماً على أرضِ الواقع.

 

تكرر المشهد في سنوات أخرى بصور مختلفة، ففي 2025، أعلنت الحكومة السورية المؤقتة عن منحة قطرية تبلغ 87 مليون دولار لتغطية رواتب موظفي القطاع المدنيّ “من معلمين وأطباء وعاملين في قطاعات الصحة والشؤون الاجتماعية والمتقاعدين من غير العسكريين” بمعدل يقارب 29 مليون دولار شهريًا لثلاثة أشهر قابلة للتجديد.

 

هذا الدعم المباشر، الذي استُثني من العقوبات الدولية، لم يكن تفصيلًا مالياً فقط، بل رسالة سياسيّة بأنّ قطر ما تزال ترى في مؤسسات السوريين الوليدة جسمًا يستحق البقاء والتمويل، وظلّت قطر جزءًا من شبكة الدعم غير المباشر عبر الحلفاء، أو من خلال توفير غطاء سياسي ودبلوماسي مكّن المعارضة من الاستمرار.

 

ولعلّ ما يؤكد على هذا النهج ما قاله الأمير تميم بن حمد آل ثاني في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة 23 أيلول/ سبتمبر 2025، حيث شدّد أنّ سوريا دخلت مرحلة جديدة ويجب أن تقود إلى الاستقرار وسيادة القانون، مؤكدًا أنّ قطر لن تتراجع عن دعمها للشعب السوريّ، كما أدان الاعتداء الإسرائيلي على الدوحة واعتبره “إرهاب دولة”، رابطًا بين نصرة السوريين ومواجهة السياسات الإسرائيلية بوصفهما معركة واحدة من أجل العدالة.

بهذه الخطوات “من رفعِ العلم إلى دفع الرواتب” كرّست قطر معادلة مختلفة: أنّ الوقوف مع السوريين لا يقتصر على التصريحات، بل يحتاج إلى فعلٍ ملموس، حتى لو كان محدودًا أو رمزيًّا، وفي زمنٍ كثُرت فيه الخيبات، بقيت هذه الأفعال بمثابة أوتاد تثبّت ذاكرة السوريين أنّ ثمّة من لم يتخلَّ عنهم.

 

 

المفارقة والرمزيّة

عندما آثر كثيرون إتلاف صفحة الثورة السورية باعتبارها -بالنسبة لهم- عبئاً سياسياً من الماضي، بقيت قطر في موقفها الذي بدا للكثيرين مفارقاً ومحملاً بالرمزية، وبينما تخلّت عواصم عربية عن خطابها السابق، لتنتقل للمصالحة مع نظام الأسد البائد، ظلّ الأمير تميم بن حمد آل ثاني يذكّر في مناسبات علنية، أنّ “من غير المنطقي أن نقبل أن يبقى الشعب السوري يعاني من ويلات الحرب والقصف والتهجير”، كما قال في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2022.

 

وكرّر الأمير تميم في قمم عربية وإسلامية لاحقة، أنّ “من واجبنا جميعًا الوقوف مع السوريين حتى يصلوا إلى حلٍّ عادلٍ يحقق تطلعاتهم”، ليرفض التسويات التي من شأنها إعادة إنتاج نظام الأسد من دون محاسبة أو انتقال سياسيّ حقيقيّ، هذا الثبات جعل الموقف القطري يتجاوز كونه خيارًا سياسيًّا إلى كونه رسالة رمزية للسوريين: أنّ قضيتهم لم تُمحَ من الذاكرة، وأنّه ما زال هناك من يتعامل مع آلامهم بوصفها جرحًا مفتوحًا لا ورقةً تفاوضية.

 

بهذا المعنى، تحوّل الموقف القطري إلى علامة فارقة في المشهد الإقليمي، يذكّر بأن الاستمراريّة في دعم حق الشعوب ليست ضعفًا في الحسابات، بل قوة أخلاقية وسياسية في آنٍ معًا.

 

 

التحديات والانتقادات

الموقف القطري لم يخلُ من الانتقادات، فقد وُجّهت اتهامات بتدخل قطر بالشأن السوري من خلال الدعم لفصائل المعارضة وتمويل قنوات إعلاميّة كانت قد أدت دوراً في توجيه الرأي العام، بينما ربط الخصوم موقفها من الثورة بميلها لدعم تيارات “الإسلام السياسي”، معتبرين أنّ البعد الإنساني الذي تتبناه يخفي حسابات أيديولوجية وسياسية، هذه الانتقادات على شدتها لم تحجب حقيقة ثبات قطر على موقفها في وقت بدّل آخرون بوصلتهم.

 

الخطاب الرسمي القطري كما عبّر عنه الأمير تميم، بقي في تأطير اللغة الإنسانيّة الواضحة “حماية المدنيين، محاسبة المسؤولين عن الجرائم، السعي لحلّ سياسي عادل”، من هنا، فإنّ التساؤل لا يدور حول خلوّ الموقف من الحسابات السياسيّة، بل حول قدرته على الاحتفاظ ببُعده الرمزيّ والأخلاقيّ.

ختاماً، ظلّت قطر الصوت العربي الأوضح في دعم الثورة السوريّة، حتى بعد تحرير سوريا وبقوة، في مرحلةٍ تزدحم بالخيبات والتسويات، يبقى السؤال حاضرًا: ما معنى أن يستمر صوت عربي واحد، طوال 14 عامًا، في تذكير السوريين أنّهم لم يُتركوا وحدهم؟

شارك

مقالات ذات صلة