فكر
الكاتب: محمود الإبراهيم
يشهد العالم اليوم تحوّلاً عميقاً في آليات تشكيل الرأي العام بفعل الثورة التكنولوجية التي أعادت صياغة بنية الاتصال وطرق تداول المعلومة. فمع انتشار الهواتف الذكية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، لم تعد التكنولوجيا مجرّد أداة للتواصل، بل فضاء واسع يُنتج فيه الخطاب وتُبنى من خلاله مواقف الأفراد والجماعات. أزاحت هذه التطورات الإعلام التقليدي عن موقعه المركزي، وحوّلت كلّ مستخدم إلى فاعل في صناعة الخبر وروايته، فأصبح الرأي العام يتشكل لحظة بلحظة عبر ملايين التفاعلات الرقمية. إلا أنّ هذا الانفتاح ترافق مع هشاشة متزايدة أمام التضليل والأخبار الكاذبة التي تنتشر بالسرعة ذاتها.
وتزداد خطورة المشهد مع بروز ما يُعرف بـ “الذباب الإلكتروني”، أيّ الشبكات المدفوعة والمنسقة التي تضخ روايات مجتزأة وتوجّه النقاش العام وفق أجندات محددة، مستخدمةً الخوارزميات لصناعة ترندات اصطناعيّة توحي بوجود إجماع وهمي. وفي الحالة السورية، برزت هذه الظاهرة بشكلٍ أوضح بعد مرحلة التحرير وتعيين وزراء جدد؛ حيث تصاعدت موجات الانتقاد والاتهامات، بعضها مشروع، لكن كثيراً منها انطلق من أحكام متسرّعة تستند إلى ما يُتداول في المصادر المفتوحة، متجاهلاً ما تقتضيه تعقيدات السياسة والأمن. وهكذا تحوّلت المنصات إلى ساحات مفتوحة لتصفية الحسابات واستهداف شخصيات بعينها، ما يطرح سؤالاً جوهريّاً: هل بات الرأي العام أداة للتحرر والمساءلة، أم رهينة للتلاعب الرقمي والحملات الممنهجة؟
لم يقف الجدل عند حدود الحملات الإلكترونيّة المنظمة أو موجات التشويه الممنهج، بل تعدّاها أحياناً إلى شكل آخر لا يقل خطورة، وهو النقد لمجرّد النقد. ففي كثير من الحالات، لا يُبنى الاعتراض على أسسٍ موضوعية أو معايير مهنية، وإنّما يتحوّل إلى تصيّد للأخطاء وانتقاص من الأشخاص بعيداً عن جوهر ما يقدمونه. المثال الأبرز على ذلك ما تعرّض له وزير الثقافة السوري محمد ياسين صالح عقب ظهوره في بعض المحافل وهو يلقي الشعر، إذ انطلقت موجة من الانتقادات الساخرة.
غير أنّ ما غاب عن هذه الحملات أنّ الوزير نفسه شاعر في الأصل، وصاحب تجربة أدبية طويلة أهلته للفوز بجائزة “فصيح العرب”، كما أنّه قدّم برنامجاً فكرياً وأدبياً شهيراً بعنوان “تأملات” على قناة الجزيرة، وقد رسّخ حضوره في الساحة الثقافية والإعلامية قبل أن يتولى منصبه الوزاري. تجاهل هذه الخلفية يعكس كيف يمكن أن يتحوّل النقد من أداة لتقويم الأداء إلى وسيلة للتقليل من شأن الأشخاص وتشويه صورتهم أمام الرأي العام.
الأمر نفسه تكرر في قضايا أخرى؛ فالوفد الإعلامي العربي الذي زار سوريا مؤخراً ضم شخصيات أثارت تحفظات لدى بعض الأوساط، لكن استقباله في قصر الشعب كان قراراً رئاسياً يستند إلى سياساتٍ عامة مرسومة، وليس خياراً فردياً لوزير بعينه. ورغم وضوح البنية السياسية لهذا القرار، جرى توجيه سهام النقد إلى وزارات محددة وكأنها صاحبة القرار، متجاهلين أنّ الدولة تسير وفق نهج مدروس يوازن بين الواقع السياسي ومتطلبات الانفتاح.
كما أثير جدل آخر حول ما تردد عن منح وزير الإعلام ترخيصاً لميشال المر، صاحب قناة MTV، لافتتاح قناة “أنا سوريا”. وإذا صحت هذه المعلومات، فهي تستند إلى الإعلان الدستوري الذي يضمن الحريات الإعلامية في سوريا الجديدة. فالمسألة هنا ليست خضوعاً لمزاجاتٍ شخصية أو رغبات آنية، بل التزام بمبدأ دستوري أساسي. إذ إنّ منع مثل هذه القناة قد يفتح الباب أمام عملها من الخارج بحرية مطلقة، فيما يُعد الترحيب بها وضبط عملها وفق ميثاق الشرف الإعلامي ومدونات السلوك الخيار الأكثر حكمة.
من الأمثلة البارزة على تعقيدات المشهد النقدي في سوريا ما جرى مع المواطن عبد الرزاق ثلجي، الذي تعرّض لاعتقالٍ تعسفي على يد مجموعة تابعة للأمن الداخلي في ريف دمشق بقيادة ماهر دحبور، حيث اقتحمت القوة منزله وروّعت أسرته على خلفية شكوى من بعض أبناء الحي. وما إن تكشفت تفاصيل الواقعة حتى بادر وزير الداخلية إلى التدخل المباشر، مقدّماً اعتذاراً رسمياً باسم الوزارة، ومؤكداً أنّ ما حدث تصرّف فردي لا يعبّر عن السياسات العامة. كما جرى توقيف العناصر المتورطين، بمن فيهم قائد المجموعة، وإحالتهم للمحاسبة.
زوجة ثلجي أعلنت عبر حسابها في إنستغرام أنّ “حقهم قد استُرد بالكامل”، في إشارة إلى أنّ العدالة أخذت مجراها وأنّ الدولة تجاوبت سريعاً لتدارك الخطأ. ومع ذلك، ظلّت موجة النقد والاتهامات موجّهة إلى الوزير، حيث اعتبر بعض المعلّقين أنّه سيضطر دوماً إلى الظهور والاعتذار عن كل حالة فردية مشابهة، وكأن المؤسسة الأمنية عاجزة عن معالجة الخلل من جذوره.
إنّ هذا الموقف يكشف عن معضلة مزدوجة: فمن جهة، يمثّل الاعتذار العلني خطوة نادرة ومهمة في السياق السوري تعكس إدراك المسؤولية ومحاولة إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. ومن جهة أخرى، فإنّ تكرار الاعتذارات من دون إصلاحات هيكلية تمنع تكرار مثل هذه التجاوزات يجعلها تبدو بلا جدوى، بل مادة إضافية للهجوم. وهكذا يبقى النقد مشروعاً في جوهره، لكنّه حين ينزلق إلى إنكار أيّ بادرةٍ إصلاحية يتحوّل إلى عامل تشويه للرأي العام ويُضعف قدرته على الفصل بين النقد البنّاء والتجريح المبالغ فيه.
من أبرز الأمثلة التي تكشف طبيعة النقد الانفعالي والحملات الرقمية الموجَّهة، ما حدث عند توقيف إحدى الصحفيات في سوريا، فقد بادر وزير الإعلام للتوسّط لدى وزير الداخلية لإطلاق سراحها، في خطوة بدت للكثيرين عملاً إنسانياً ومهنياً يراعي الظروف الخاصة بالعمل الصحفي. وبالفعل، وافق وزير الداخلية على إخلاء سبيلها، في قرارٍ مشترك بُني على تقدير المصلحة العامة، مع التأكيد في الوقت ذاته على استمرار محاكمتها أمام القضاء وفقاً للقانون، بحيث لا يُفهم التدخل على أنه تعطيل للإجراءات القضائية أو خرق للقوانين المرعية.
غير أنّ اللافت في هذه القضية أنّ الحملة الرقمية التي اندلعت ركّزت على مهاجمة وزير الإعلام حصراً، متجاهلة أنّ القرار كان ثمرة توافق بين وزارتين سياديتين، وأنّ إخلاء سبيل الصحفية لا يلغي محاكمتها بل يمنحها فقط فرصة لمتابعة حياتها المهنية ريثما يقول القضاء كلمته.
إنّ هذه الانتقائية في توجيه النقد تطرح علامات استفهام كبرى: لماذا جرى استهداف وزير الإعلام وحده، رغم أنّ قرار الإفراج كان مشتركاً؟ وهل تحوّلت المنصات الرقمية إلى ساحة لتصفية الحسابات الشخصية والسياسية، بعيداً عن النقاش الموضوعي والمسؤول؟ إنّ مثل هذه الحملات لا تساهم في تعزيز ثقة المجتمع بمؤسساته، بل تغذّي صورة مشوَّشة للرأي العام وتحوّله إلى رهينة الانفعالات والمواقف المسبقة.
وهكذا يتضح أنّ القضايا الحساسة، حين تُعالج بآليات مؤسساتية، قد تُحوَّر في الفضاء الرقمي لتبدو كأنّها صادرة عن شخصٍ بعينه، في حين أنّ حقيقتها أعمق وأكثر تعقيداً. وهذا بحد ذاته يفرض على المتابعين قدراً أكبر من التبصّر والوعي النقدي، كي لا ينزلقوا إلى فخاخ التشويه الممنهج.
لم يَسلم وزير التربية والتعليم السوري محمد عبد الرحمن تركو من موجات النقد أيضاً، حيث طالت سهام الانتقادات أداءه في واقعة بدت في ظاهرها بسيطة، حين أخطأ في إلقاء بيت الشعر الشهير “العلمُ يرفعُ بيوتاً لا عمادَ لها”، فنصب الفعل “يرفع” خطأً أثناء مشاركته في فعالية “ريفنا بيستاهل”. ورغم أن مثل هذه الهفوات اللغوية قد تُعد عابرة، إلا أنّ التفاعل الرقمي حوّلها إلى مادة ساخرة.
وطبعاً النقد لا يقف عند حدود اللغة، بل يمتد إلى السياسات التعليمية ذاتها، خصوصاً ما يتعلق بمادة التربية الدينية. فقد تعرّض الوزير لانتقاداتٍ واسعة حين قرر تخفيض حصص مادة الديانة في المدارس من أربع حصص أسبوعياً إلى حصتين فقط، بدعوى تخفيف العبء الدراسي وإعطاء مساحة أكبر للمواد العلمية. هذا القرار أثار حفيظة شرائح رأت فيه مساساً بالهوية الثقافية والقيم التربوية، فاندلعت حملة واسعة على المنصات الرقمية ضد الوزير. ومع ذلك، لم ينجُ أيضاً من النقد حين تراجع لاحقاً عن القرار وأعاد الحصص كما كانت، إذ اتهمه البعض بالتخبّط وعدم امتلاك رؤية واضحة لإصلاح المناهج.
إنّ هذه التجربة تكشف كيف يمكن لزلة لسان أو لقرارٍ إداريّ أن تتحوّل في الفضاء الرقمي إلى قضية رأي عام، حيث تختلط المواقف الموضوعية بالانفعالية، وتُستغل أخطاء فرديّة أو تعديلات جزئية لإطلاق أحكام شاملة على شخصية المسؤول وأهليته، وهو ما يعكس هشاشة النقاش العام حين يغيب التوازن بين النقد البنّاء وموجات السخرية أو الاتهام التي تُضخّم الجزئيات وتغفل الأساسيات.
نرى أنّ النقد في الفضاء الرقمي السوري يختلط فيه المشروع بالانفعالي، والموضوعي بالموجَّه، فيتحول الرأي العام أحياناً إلى ساحة لتصفية الحسابات وتضخيم الهفوات على حساب النقاش البنّاء. وما يزيد الأمر خطورة أنّ معظم هذا النقد ليس بريئاً، بل يأتي في إطار حملات موجّهة تستثمر في الانفعالات الجماهيرية وتعيد إنتاج روايات جاهزة للتشويه والإقصاء.