فكر
على شاشةٍ عملاقة في قلب حملة دير العز، كانت الأرقام تتدفق كالشلال: ملايين الدولارات تُعلَن تباعاً، أسماء متبرّعين كبار وصغار تتزاحم على لائحة “الفضل”. بدا المشهد وكأنّه عرضٌ جماعيّ للكرم بعد الخراب. لكن فجأة، انبثق الاسم الذي ارتبط بأطول عهود النهب والدمار: بشار الأسد – 5 دولار. لقطةٌ صفيقة تكثّف مفارقة عقودٍ كاملة؛ حاكمٌ راكم المليارات، ويظهر اسمه بعد سقوطه في سجلّ المتبرّعين بخمسة دولارات لا أكثر.
هذه السخرية العلنية ليست مجرّد تفصيل عابر، بل رمزٌ مكثّفٌ للذهنية الأسديّة التي لا ترى في المال قيمة اجتماعية بقدر ما تراه وسيلة امتهان واستعراض. فالمال الحقيقي لا يظهر على الشاشات، بل يذوب في حساباتٍ خارجية، ويتحوّل من تجارةٍ قاتلة -الكبتاغون- إلى أصولٍ واستثماراتٍ آمنة. إنّها سلطة مالية موازية، لا تسقط بسقوط النظام، بل تعيد تشكيل نفسها بأسماءٍ جديدة، وأجيالٍ ورثة.
هذا المقال يحاول تفكيك هذه الحكاية: كيف تحوّل الكبتاغون إلى رمزٍ لاقتصاد السلطة غير الشرعي، وأيّ مساراتٍ تنتظر الأموال المنهوبة بعد انهيار النظام؟ من هم “الجيل الثالث” من الأسديين الذين يرثون المال بدل الحكم؟ وما الدروس التي تقدّمها تجارب العالم عن إمكانية استرداد هذه الثروات؟
الكبتاغون: اقتصاد ظلّ يختصر الأسدية
منذ سنوات الحرب، تراجع الاقتصاد السوري الرسمي إلى ما يشبه القشرة الفارغة: موازنات عاجزة، قطاع إنتاجي منهار، عملة منهكة، وانكفاء شبه كامل للدولة عن تمويل نفسها بالطرق التقليدية. لكن السلطة لم تسقط مالياً؛ بل فتحت لنفسها قنوات بديلة: التهريب، الجباية، الاحتكار، وتجارة الحرب، وكان الكبتاغون تاج هذه القنوات. فخلال أقلّ من عقد، تحوّلت سوريا من محطة عبور محدودة لهذا المخدّر إلى المنتج والمصدّر الأول عالمياً، حتى صار اسمه مقترناً بها كما اقترن “الكوكايين” بكولومبيا في الثمانينيات.
لم تكن هذه الصناعة ممكنة دون رعاية مباشرة من أجهزة الدولة وأذرعها العسكرية. تقارير أممية ودولية ربطت مصانع التصنيع وموانئ التهريب بالفرقة الرابعة وبشخصيات من العائلة الحاكمة، في شبكة متكاملة تبدأ من معامل صغيرة محمية في الجبال والقرى، مروراً بخطوط تهريب إلى الأردن والعراق ولبنان، وصولاً إلى موانئ البحر المتوسط والخليج. والأهم أن هذه التجارة لم تُخفَ باعتبارها جريمة، بل جرى التعامل معها كجزءٍ من “الاقتصاد السياسي” للنظام: ورقة تفاوض، وسيلة ضغط، وأداة لتثبيت الشرعية في زمن الحصار.
لكن القيمة الأعمق للكبتاغون ليست في حجمه المالي فقط –الذي قدّرت بعض الدراسات أنه بلغ عشرات المليارات من الدولارات خلال عقد واحد– بل في رمزيته. فالحبوب التي كانت تُباع في السوق السوداء صارت “عملة السلطة” الجديدة: وسيلة لشراء ولاء الضباط، لدفع رواتب المليشيات، ولإعادة توزيع الثروة داخل شبكة ضيقة. إنّه الوجه الأوضح لسلطة مالية أسدية غير شرعية: لا تدخل أموالها إلى خزينة الدولة ولا تُستثمر في تنمية الاقتصاد، بل تتحوّل إلى حساباتٍ خارجية، عقارات في الخارج، وشركات أوفشور مموّهة.
بهذا المعنى، لم يكن الكبتاغون مجرد تجارة مربحة، بل أسلوب حكم. لقد عبّر عن تحوّل النظام من دولة إلى شبكة، من مؤسسة عامة إلى مافيا خاصّة. وهنا تكمن الخطورة: فالأموال الناتجة عن تجارة الكبتاغون وغيرها من اقتصاديات الحرب لم تكن يوماً مرتبطة بوجود النظام في الحكم. بالعكس، جرى تهريبها مسبقاً إلى خارج البلاد، حيث يمكنها النجاة حتى لو سقطت السلطة. ما يُسمّى “اقتصاد الكبتاغون” هو في جوهره اقتصاد عائلي موازٍ، يراكم المال الأسود ثم يحوّله إلى أصول قابلة للتوريث. وهو ما يجعل السؤال عن مصير هذه الأموال بعد سقوط الأسد أهم من السؤال عن مصير المخدّر نفسه.
سقوط الأسد ≠ سقوط الشبكة
حين سقطت أنظمة كثيرة عبر التاريخ، كانت الخزائن العامّة أول ما ينهار معها. لكن في سوريا، المشهد مختلف: ما يُسمّى بـ”خزينة الدولة” تآكلت منذ زمن بعيد، بينما الثروة الحقيقية كانت تُهرَّب إلى الخارج وتُخزَّن في حسابات معتمة. لذلك، فإنّ سقوط الأسد السياسي لا يعني تلقائياً سقوط الشبكة المالية التي غذّتها الأسدية لعقود.
فالمصانع التي أُغلقت، والطرقات التي قُطعت، لا تمثّل إلا القشرة الظاهرة من اقتصاد الكبتاغون. البنية الأعمق موجودة في الخارج: حسابات مصرفية في ملاذاتٍ آمنة، شركات أوفشور مسجّلة بأسماء واجهات، عقارات في دبي وقبرص وموسكو، واستثمارات متناثرة تحمل أسماء أقارب أو شركاء. هذه ليست “أرباح تجارة” بالمعنى الضيق، بل شبكة مالية صُمِّمت منذ البداية لتنجو من تقلبات الداخل، وتُستثمر في الخارج بعيداً عن أيّ مساءلة.
التجارب العالمية تُظهر أنّ الشبكات المالية أقوى من سقوط الأفراد. في نيجيريا، استمرّت أموال أباتشا تدور في البنوك الأوروبية بعد وفاته، ولم يُستردّ منها سوى جزء يسير رغم جهود عقود. وفي تونس، بقيت أموال بن علي وعائلته مجمّدة في مصارف سويسرا لسنوات طويلة قبل أن تعود فتُذاب ببطءٍ بفعل الثغرات القانونيّة. أما في الفلبين، فقد احتاجت الدولة 3 عقود تقريباً لتستردّ جزءاً محدوداً من مليارات ماركوس. هذه النماذج تكشف أنّ الثروة غير الشرعية لا تسقط مع سقوط صاحبها، بل تتحوّل إلى لاعبٍ مستقل في السياسة والاقتصاد.
في الحالة السورية، تبدو الصورة أكثر تعقيداً. فالنظام لم يكتفِ بتهريب الأموال إلى الخارج، بل خلق طبقة كاملة من الوكلاء والورثة القادرين على إدارتها. وهؤلاء ليسوا سياسيين بالضرورة، بل رجال أعمال وأحفاد و”جيل ثالث” ينمو خارج سوريا بجوازات أجنبية وبيئات آمنة. ومع الوقت، يمكن لهذه الأموال أن تتحوّل إلى أدوات نفوذ سياسيّ جديد، أو إلى سلطةٍ مالية موازية، قادرة على شراء موقع في مستقبل البلاد، أو على الأقل على شراء حماية دائمة في المنفى.
وهنا يكمن السؤال الذي يفتح بقية المقال: إذا كانت الشبكة المالية الأسدية قادرة على الاستمرار بعد سقوط النظام، فما هي الآليات الكفيلة بتفكيكها أو استردادها؟ وهل يملك السوريون وحلفاؤهم أدوات واقعية لمواجهة ثروة بُنيت لتبقى؟
جيل الأسديين الثالث: ورثة المال بلا دولة.
حين أسّس حافظ الأسد جمهوريته الأمنية، كان رهانه على السيطرة السياسية المطلقة: شبكة ضباط، مؤسسات أمنية، وحزب واحد يلتف حول العائلة. الجيل الأول كان جيل الحُكم المباشر، الذي يملك الدولة ويفرضها على المجتمع. مع انتقال السلطة إلى بشار، لم تعد السيطرة السياسية وحدها تكفي. العقوبات الدولية، انهيار الاقتصاد، وانفجار الثورة جعلت من المال شرطاً للبقاء. وهكذا برز الجيل الثاني، جيل بشار وأخيه وأبناء العمومة، الذين حوّلوا السلطة إلى ماكينة ثروة، عبر الاحتكارات وتجارة الحرب، ثم عبر الكبتاغون بوصفه المورد الأبرز.
لكن مع سقوط النظام، يفتح المشهد على طور جديد: جيل الأسديين الثالث. هؤلاء ليسوا قادة جيوش ولا رؤساء أجهزة، بل ورثة يعيشون خارج سوريا أو على هامشها. هم الأبناء والأحفاد والأصهار الذين نشؤوا في بيئات مرفّهة نسبياً، درسوا في جامعات غربية أو إقليمية، وامتلكوا منذ البداية جوازات بديلة وحسابات مصرفية مؤمنة. إنّهم “أسدية منزوعة السياسة” لكنها مشبّعة بالمال: لا يديرون دولة، بل يديرون ثروة.
تقارير صحفية ودولية أشارت إلى أنّ بعض أبناء العائلة الحاكمة يملكون عقارات فاخرة في موسكو ودبي، ويستثمرون في شركات واجهة مسجّلة في قبرص وجزر الكاريبي. تسريبات “أوراق بنما” و”أوراق باندورا “(ICIJ) كشفت وجود حسابات وشركات مرتبطة برجال أعمال مقرّبين من الأسرة، تُستخدم لتخزين الأموال أو تدويرها في استثماراتٍ عقارية وفندقية. بعض الأحفاد ظهروا في وسائل الإعلام الغربية بصفة “طلاب” أو “روّاد أعمال شباب”، لكن خلف هذه الصورة الوردية يقف ميراث مالي ضخم مكدّس عبر عقود من اقتصاد الحرب.
هذه الظاهرة ليست سوريّة فقط. في ليبيا، ورثة القذافي تحوّلوا إلى رجال أعمال يديرون شبكات نفوذ في أفريقيا وأوروبا. في تونس، عائلة بن علي توزّعت بين فرنسا والسعودية، حيث استثمرت الأموال المنهوبة في مشاريع عقارية وتجارية. وفي أوكرانيا، ظلّت عائلة يانوكوفيتش تسيطر على شركات منفى في روسيا رغم سقوطه. النموذج واحد: الأجيال الجديدة قد تفقد السلطة السياسية، لكنها تحافظ على الإمبراطورية المالية.
بهذا المعنى، فإن خطورة “الجيل الثالث” لا تكمن في طموحهم إلى حكم سوريا مجدداً، بل في قدرتهم على شراء النفوذ وحماية أنفسهم بالمال. يمكن أن يظهروا كمستثمرين في مجالات شرعية: العقارات، التكنولوجيا، الرياضة، أو حتى الفن، لكن خلف هذه الواجهات تبقى شبكة المال الموروثة تعمل وتعيد إنتاج نفسها. لقد تحوّلت الأسدية من “سلطة تحكم” إلى “سلطة تملك”، من دولة علنية إلى مافيا مالية، ومن جيلٍ يقاتل من أجل الكرسي إلى جيل يرث المال ويعيد تدويره.
وإذا كان الكبتاغون هو رمز الأسدية الثانية، فإن الملاذات الآمنة ستكون رمز الأسدية الثالثة. جيل الأحفاد لا يحتاج أن يحكم دمشق أو أن يظهر في مواكب عسكرية؛ يكفيه أن يدير أصولاً بقيمة مليارات الدولارات في الخارج، وأن يحتفظ بإمكانية التأثير من بعيد. هذه هي “الأسدية بلا أسد”: شبكة مالية عابرة للحدود، حاضرة في المستقبل حتى إن غابت عن الحكم.
أين تذهب الأموال؟ الملاذات والاستثمارات
حين ينهار النظام السياسي، تبحث الثروة المنهوبة عن مأوى. الأموال التي وُلدت من اقتصاد الكبتاغون والتهريب لم تُكدَّس في بنوك دمشق ولا في خزائن الدولة، بل أُعدّت منذ سنوات لتجد طريقها إلى الخارج. التجربة السورية هنا لا تختلف كثيراً عن تجارب أنظمة أخرى: الملاذات المالية العالمية مفتوحة، والخيارات متعددة، والورثة يعرفون جيداً كيف يخفون المليارات خلف ستار من الشرعية.
أكثر الأدوات شيوعاً في هذا المجال هي ما يُعرف بشركات “الأوفشور”، وهي كيانات ورقية تُسجَّل في دول صغيرة أو جزر بعيدة، من دون أن يكون لها نشاط حقيقي هناك. الغاية ليست التجارة، بل التستّر: فبمجرد وجود اسم شركة مسجَّلة، يصبح بالإمكان فتح حسابات مصرفية، شراء عقارات، أو تمرير استثمارات، بينما يظلّ المالك الحقيقي مختبئاً خلف وكلاء أو مدراء صوريين. وهكذا تتحوّل الأموال غير الشرعية إلى أرباح “نظيفة” على الورق. وقد كشفت التسريبات العالمية مثل أوراق بنما وباندورا عن العشرات من هذه الكيانات المرتبطة بنخب حاكمة حول العالم، وبعضها له صلات مباشرة برجال أعمال مقرّبين من السلطة السورية.
العقارات تشكّل وجهة مفضلة أخرى. من موسكو إلى دبي، ومن قبرص إلى أثينا، تُستخدم الأبراج السكنية والفيلات الساحلية كمخازن مالية آمنة، لا يطولها القانون بسهولة. شراء عقار فاخر يوفّر وسيلة لحماية رأس المال، كما يمنح صاحبه غطاءً اجتماعياً وقانونياً يصعب اختراقه. وفي الوقت الذي كان ملايين السوريين يُهجَّرون من بيوتهم، كانت تقارير غربية تتحدث عن استثمارات عقارية فاخرة يملكها أبناء الدائرة الضيقة للنظام في الخارج.
وإلى جانب الشركات الورقية والعقارات، يفتح باب آخر للنجاة: الجنسيات الذهبية. عشرات الدول تعرض جوازات سفر مقابل استثمارات بمئات آلاف الدولارات، وهو ما يمنح الورثة حرية حركة، ويتيح لهم فتح حسابات مصرفية جديدة، ويحميهم من أي ملاحقة مستقبلية. الجواز البديل لم يعد ترفاً، بل أداة أساسية لإدامة النفوذ المالي.
لكن الأموال المهربة لا تبقى جامدة بالضرورة. كثيراً ما تتحرك عبر استثمارات واجهة في التكنولوجيا والسياحة والرياضة والفن. هذه القطاعات تمنح انطباعاً بالحداثة والانفتاح، وتقدّم غطاءً مثالياً لتلميع صورة العائلات الحاكمة بعد سقوطها. قد يظهر الورثة في مؤتمر استثماري أو على واجهة فريق رياضي عالمي، فيما تبقى الثروة التي تقف وراءهم مرتبطة مباشرة بسنوات الحرب والفساد.
بهذا المعنى، لم يعد السؤال هو ما إذا كانت الأموال ستنجو من السقوط، بل أين سيُعاد إنتاجها. من شركات الأوفشور إلى أبراج الزجاج في دبي وموسكو، ومن جوازات استثمارية إلى استثمارات واجهة، يتنقّل المال كما يتنقّل الورثة، ليعيد تشكيل نفسه بعيداً عن دمشق، لكنه حاضر دوماً في مستقبلها.
تجارب العالم: هل يمكن استردادها؟
حين تسقط أنظمة استبدادية، غالباً ما ينهض السؤال ذاته: أين ذهبت الأموال المنهوبة، وهل يمكن استردادها؟ التاريخ يقدّم إجابات متناقضة، بعضها مبشّر، وبعضها يثير الإحباط.
في نيجيريا، خلّف الجنرال ساني أباتشا شبكة فساد هائلة، حوّلت ما يقارب 5 مليارات دولار إلى مصارف أوروبية وخليجية. احتاجت الدولة أكثر من 20 عاماً، بمساعدة مباشرة من البنك الدولي ومبادرة استرداد الأصول المسروقة (StAR)، لاستعادة نحو 3 مليارات فقط. العملية تطلّبت عشرات الدعاوى القضائية، تعاوناً مع سلطات عدّة دول، وكمية لا تنتهي من الضغوط الدبلوماسية، فيما ضاع الباقي في متاهات القوانين والملاذات السرية.
أما في تونس، فقد حمل سقوط بن علي وعوداً باسترجاع مليارات “الطرابلسية” المهرّبة. جُمّدت بعض الحسابات في سويسرا وكندا، وبدأت مفاوضات طويلة لإعادتها. لكن غياب الإرادة السياسية الداخلية، وتعقيدات القضاء الأوروبي، جعلا المليارات تتحوّل إلى فتات: بضع عشرات الملايين فقط عادت خلال عقد كامل، بينما تبخّر الجزء الأكبر أو تحوّل إلى أصول لا يمكن المساس بها بسهولة.
القصة الأطول جاءت من الفلبين. هناك، سقط فرديناند ماركوس عام 1986، تاركاً خلفه ثروة قُدّرت بعشرة مليارات دولار، مخبّأة في مصارف سويسرا والولايات المتحدة. احتاجت الحكومات المتعاقبة ثلاثة عقود كاملة لاستعادة قرابة نصفها فقط، رغم تشكيل لجنة وطنية خاصة، وتعاون مباشر مع واشنطن وبرن. الدرس واضح: المال المهرّب أقوى من ذاكرة الشعوب، وأبطأ من عجلة العدالة.
هذه التجارب تكشف ثلاث حقائق لا يمكن إنكارها. أولاً، أن استرداد الأموال ممكن لكنه يحتاج وقتاً طويلاً وأدوات معقّدة. ثانياً، أن نجاح العملية مرهون بتوافر إرادة سياسية داخلية متماسكة، قادرة على ملاحقة الملف حتى النهاية. ثالثاً، أن الملاذات المالية لا تُفرّط بسهولة بالثروات المودعة لديها، لأنّها جزء من اقتصادها ومكانتها العالمية.
السيناريو السوري الواقعي
إذا كانت تجارب نيجيريا وتونس والفلبين تبرهن أنّ استرداد الأموال المنهوبة ممكن لكنّه بالغ الصعوبة، فإنّ الحالة السورية تطرح تحديات مضاعفة. فشبكة الأموال الأسدية لم تُهرَّب فقط إلى الخارج، بل بُنيت من الأساس لتكون خارج الدولة: شركات أوفشور، عقارات موزّعة بين موسكو ودبي وقبرص، حسابات بأسماء واجهات، وجوازات بديلة تمنح الورثة حصانة قانونية. أي محاولة لملاحقة هذه الثروة لا تبدأ من الصفر، بل من أرضية معقدة ومليئة بالعقبات.
أول هذه التحديات يكمن في الواقع الداخلي. فالدول التي نجحت جزئياً في استعادة أموالها امتلكت أجهزة قضائية متماسكة وحكومات مستقرة. أما سوريا اليوم، فرغم امتلاكها حكومة شرعية تعبّر عن السوريين وتُمثّل مركزية الدولة، إلا أنّها تواجه عراقيل ناتجة عن محاولات أقلوية مليشياوية للانفصال وفرض وقائع موازية. هذا التنازع لا يلغي شرعية الحكومة، لكنّه يعرقل تشكيل ملف وطني موحَّد أمام المحاكم الدولية، ويمنح الملاذات المالية ذريعة للتأجيل والمماطلة.
التحدي الثاني يرتبط بالبيئة الدولية. الملاذات المالية ليست مجرّد “أوكار سرية”، بل جزء من اقتصاد عالمي ضخم يقوم على جذب الأموال، أياً كان مصدرها. بنوك سويسرا وقبرص ولندن لا تفرّط بسهولة بزبائنها الكبار. والتجارب السابقة أثبتت أنّ استعادة الأموال تحتاج ضغطاً سياسياً متواصلاً من حكوماتٍ قوية، وهو ما قد يفتقر إليه السوريون ما لم يتبنَّ المجتمع الدولي الملف بجدية ويضعه ضمن أولوياته.
لكن هذا المشهد القاتم لا يعني الاستسلام. هناك فرص واقعية يمكن البناء عليها. تشكيل لجان وطنية متخصصة بتتبع الأصول سيكون خطوة أولى ضرورية، شرط أن تضم خبراء محليين ودوليين وأن تُمنح صلاحيات واسعة. يمكن كذلك اللجوء إلى التعاون القضائي الدولي عبر اتفاقيات ثنائية ومتعددة الأطراف، بحيث تُرفع دعاوى مدنية وجنائية متوازية في أكثر من بلد. كما أنّ إشراك المجتمع المدني والإعلام سيخلق ضغطاً معنوياً مستمراً، ويحول دون دفن الملف في البيروقراطية.
الأهم أنّ المسار السوري يحتاج إلى استراتيجية مزدوجة: واقعية في الأهداف، ورمزية في الخطاب. قد لا يكون ممكناً استرداد كل المليارات، لكن مجرّد استرجاع جزء ملموس منها، أو تجميدها على الأقل، سيكون رسالة سياسية كبرى: أنّ النظام لم ينجُ بأمواله كما نجا بسنوات القمع. وأنّ السوريين قادرون على كسر الحلقة الجهنمية التي تجعل المال المنهوب سلطةً متجددة.
بهذا المعنى، فإنّ التحدي ليس مالياً فحسب، بل هو تحدٍ للذاكرة والعدالة. فالأسدية يمكن أن تسقط كجسدٍ سياسي، لكن أموالها إذا بقيت حيّة ستعيد إنتاج النفوذ في أشكالٍ جديدة. وحده مسار قانوني – سياسي شجاع قادر على كسر هذه الحلقة، وإعادة الثروة إلى أصحابها الحقيقيين: الشعب السوري.
الخاتمة
في المشهد الافتتاحي، ظهر اسم بشار الأسد على شاشة التبرعات بخمسة دولارات فقط. لقطة صفيقة بدت للوهلة الأولى كدعابة سمجة، لكنّها في جوهرها تلخّص الحكاية: مليارات منهوبة غائبة عن الأنظار، وحضور رمزي هزيل يفضح طبيعة الأسدية حين تحوّل المال إلى وسيلة امتهان وسخرية. ما كان يظهر على الشاشة مجرّد قشرة، أما الثروة الحقيقية فقد وُضعت بعيداً، في خزائن محصّنة وملاذات آمنة تنتظر ورثتها.
لقد كان الكبتاغون أكثر من تجارة، كان مرآةً لاقتصاد الظلّ الذي أسّسه النظام ليستمرّ بعد سقوطه. ومع انتقال الثروة إلى “الجيل الثالث”، يتضح أن الأسدية لم تكن مجرّد حكم عائلة، بل مشروع مالي طويل الأمد: من يملك المال يملك القدرة على إعادة إنتاج السلطة، حتى ولو غابت صور الآباء عن جدران دمشق.
وهنا تكمن المهمة أمام السوريين وحلفائهم: أن يحولوا بين هذه المليارات وبين تحوّلها إلى سلطة جديدة. قد لا تعود كل الأموال، وقد يضيع الكثير منها في متاهات القضاء والملاذات، لكن مجرد كسر السلسلة، تجميد جزء من الثروة أو استعادتها، سيكون إعلاناً بأنّ زمن الإفلات من المحاسبة قد انتهى. فبين خمسة دولارات معروضة على الشاشة، ومليارات مطموسة في الظل، تقف معركة الذاكرة والعدالة: إما أن تُستعاد لتُبنى بها سوريا جديدة، أو تبقى لتعيد إنتاج الأسدية من دون أسد.