مجتمع
“فوق كلّ هذا القهر والبلاء، تخيّل أنّ أغلى شخص لديك يتألم ويموت ببطء وأنت عاجز عن فعل أيّ شيء”. بهذه الكلمات عبّر الناشط البارز ماهر العايد، المقيم في مدينة تلّ أبيض شمال سوريا، عن وجعه في منشورٍ على صفحته في منصة فيسبوك، بعد أن اكتشف إصابة والدته الثمانينية بسرطان متقدم، من دون أن تتوافر أيّ فرصةٍ للكشف المبكر أو العلاج.
وأمام انسداد الأفق الطبيّ في المنطقة، اضطر العايد إلى نقل والدته في رحلةٍ محفوفة بالمخاطر، سراً عبر مناطق سيطرة “قسد” وصولاً إلى دمشق. وخلال الطريق، واجه صعوبات جمّة، أبرزها دفع مبالغ مالية عند كل حاجز، فضلاً عن تكاليف السفر الباهظة ومخاطر الطريق المستمرة.
وفي هذا السياق قال العايد: “الكثير من الناس يضطرون للبقاء في دمشق لفتراتٍ طويلة، يتحملون أعباء تفوق طاقتهم، بينما آخرون لا يملكون القدرة على السفر ويتحملون الألم والموت بصمت”. وأوضح أنّ السبب يكمن في خلافات الحكومة و”قسد” على مناطق الجزيرة السورية، مؤكداً أنّ “تخصيص جزء من المبالغ التي تتبرع بها الحكومة للمحافظات المدمرة، وتفعيل دور وزارة الصحة، يمكن أن يخفف آلام المرضى ويحدث فارقاً كبيراً”.
مناشدات محليّة للتدخل العاجل.
وفي مواجهة هذه المعاناة، أطلق ناشطون ومتطوعون محليون في تلّ أبيض شمال سوريا، مناشدة عاجلة موجهة إلى الحكومة السورية الجديدة ووزارة الصحة ووزيرها مصعب العلي للتدخل الفوريّ لمعالجة وضع مرضى السرطان في المنطقة، الذين يعاني عشرات منهم من نقص الأدوية وصعوبة الوصول إلى مناطق سيطرة الدولة.
وطالب الأهالي بتأمين الأدوية الأساسيّة أو إيجاد آلية لنقل المرضى إلى المراكز المتخصصة، محذرين من تفاقم الوضع الصحيّ إذا استمر غياب الاستجابة الرسميّة. وتعمل مبادرة “بذرة خير” على مساندة المرضى والتخفيف من معاناتهم عبر تقديم مساعدات بالتعاون مع متطوعين محليين.
إحصاءات وتفاصيل الدعم: فريق “بذرة خير وتعاونوا”.
في هذا الإطار، صرّح السيد خليل حسين الحمادي، قائد فريق “بذرة خير وتعاونوا” التطوعي في تلّ أبيض، في حديث خاص لمنصة “سطور”: “حتى تاريخ 16 أيلول/ سبتمبر 2025، سجّلنا 159 حالة إصابة بالسرطان في منطقتي تلّ أبيض وسلوك وريفهما، غير أنّ هذا الرقم لا يعكس العدد الحقيقي، فالكثير من الحالات لم تُسجَّل، وبعض المرضى يتلقون العلاج في تركيا أو دمشق، وبعضهم توفي قبل الوصول إلينا، فضلاً عن تكتم بعض العائلات عن إعلان وجود إصابة”.
وأضاف الحمادي أنّ أكثر الحالات التي رُصدت بين النساء كانت سرطان الثدي والرحم، فيما شملت الحالات إصابات في الرئة والعظام والدم والأمعاء، لجميع الفئات؛ نساءً ورجالاً وأطفالاً، وكان من بينهم أطفال دون الـ12 ولعلّ أكثر الحالات إيلاماً وفاة طفلة بعمر سنتين.
الدعم الميداني والتحديات الطبية.
وعلى صعيد الدعم، أكد الحمادي أنّه لا توجد أيّ جهةٍ حكومية أو منظمة طبيّة ترعى هؤلاء المرضى، إذ يقتصر الأمر على فريق “بذرة خير وتعاونوا”، وهو فريق شبابيّ تطوعيّ من أبناء تلّ أبيض. وقد تأسس الفريق منتصف عام 2022 بمبادرة من معلمين وموظفين وممرضين أثقلتهم معاناة الناس، حيث انطلقت المبادرة من اشتراكات شهريّة رمزيّة يقتطعها المعلمون من رواتبهم، لتتحوّل لاحقاً إلى صندوقٍ خيريّ يموّل أنشطة الفريق.
ومنذ البداية، تجنّب الفريق العمل الإغاثي التقليدي، وركّز بدلاً من ذلك على الجانب الصحي؛ فبدأ بدعم مرضى الأمراض المزمنة قبل أن يتجه إلى مرضى السرطان، عبر تأمين الأدوية، والمساهمة في تكاليف العلاج والمواصلات، وتقديم الدعم النفسي، فضلاً عن القيام بزياراتٍ ميدانيّة للمنازل والمستشفيات. ورغم انطلاقته بمتطوعَين فقط، نجح خلال فترة قصيرة في جذب عشرات المتطوعين داخل سوريا وخارجها، وقسّم المنطقة إلى قطاعاتٍ لتسهيل المتابعة. واليوم، سجّل الفريق أكثر من 159 مريض سرطان في تلّ أبيض وريفها، من دون أن تتبنى أيّ جهةٍ رسميّة أو منظمة تمويل المشروع، ما جعله يعتمد كلياً على تبرعات الأهالي والمحبين.
وفي هذا السياق، أضاف الحمادي أنّه بعد حصول المريض على وصفة طبية مختومة من طبيبه، يتواصل الفريق مع صيدليات موثوقة في دمشق والرقة وتركيا لتأمين الدواء بأقل تكلفة ممكنة مع ضمان مطابقته للمعايير الطبية. يصل الدواء إمّا عن طريق متبرعين، أو عبر تجار، أو يرافق المريض نفسه في رحلته.
لكن في المقابل، الكثير من الحالات تحتاج علاجاً كيماوياً وإشعاعياً، إلا أنّ المنطقة تفتقر تماماً لمراكز أو مختبرات خاصة بمرضى السرطان. فلا توجد خدمات للفحوصات، ولا إمكانيات للعلاج الكيماوي أو الإشعاعي، لا قبل الثورة ولا بعدها، وهو ما يشكّل أساس المشكلة.
وأشار الحمادي، إلى أنّ المرضى كانوا يُحالون قبل 5 سنوات إلى تركيا عبر استمارة طبية لتلقي العلاج مجاناً، غير أنّ هذا الواقع تغيّر بعد الخلافات بين الحكومة التركية والاتحاد الأوروبي حول ملف اللاجئين وتوقّف منح “الكملك” للسوريين. اليوم، حتى المرضى المحوّلون من مشفى تلّ أبيض يتحملون تكلفة علاجهم في تركيا على نفقتهم الخاصة.
شهادات المرضى: بين التكلفة والمخاطر.
وعلى صعيد متصل، قال “حميد الخوجة”، ذو الـ 34 عاماً، أحد المصابين بمرض السرطان والمتطوع في الفريق، لمنصة سطور، إنّ كثيرين يُجبرون على شراء الدواء على نفقتهم الخاصة. بعض المرضى يرفضون العلاج في تركيا بسبب التكاليف، فيتوجهون إلى دمشق رغم المخاطر والتعب ومشقة الطريق، بما في ذلك الحرارة والمسافات الطويلة والألغام، ووجوب دفع المال للمهربين لعبور السواتر الترابية وحواجز قسد.
وفي هذا السياق، أكد الخوجة أنّ المنظمات الطبيّة في المنطقة لا تقدم أيّ دعمٍ فعلي، إذ لا توجد أدوية للسرطان، ولا أجهزة أو مختبرات متخصصة، ولا أطباء أورام، تاركة المهمة كاملة على عاتق الفرق التطوعية.
وعلى صعيد الاستجابة الرسميّة، نوّه الخوجة إلى أنّه رغم إعلان الحكومة السورية الجديدة إعطاء الأولوية لمرضى الجزيرة في مشافي دمشق، لم تقدم أيّ دعمٍ ملموس حتى الآن. ونتيجة لذلك، بقي همّ المرضى مقتصراً على تأمين العلاج مجاناً أو بنصف التكلفة على الأقل، إضافة إلى الحاجة لتوفير مكان إقامة ملائم. وبالتالي، يعتمد المرضى وأسرهم اليوم فقط على جهود فريق “بذرة خير” والمبادرات المحلية، فضلاً عن حملات التبرع والتواصل مع المغتربين.
وختم الخوجة حديثه مطالباً بإنشاء مركز متخصص لعلاج السرطان في تل أبيض، مجهّز بالأدوية والجرعات الكيميائيّة والأجهزة المخبريّة، مع توفير برامج للكشف المبكر، وفتح مراكز مخبريّة على المعابر لتحليل المواد الغذائيّة والدوائيّة الداخلة، وضبط طرق التهريب لمنع دخول أدوية منتهية الصلاحية أو تالفة بسبب سوء التخزين. مناشداً بفتح طرق آمنة بين تل أبيض ودمشق لتخفيف معاناتهم، أو تخصيص رحلات لنقلهم من تل أبيض إلى دمشق عبر تركيا لمتابعة العلاج.
مسؤولية الأطراف الرسمية وغير الرسمية.
إلى جانب ما سبق، قال الناشط الإعلامي البارز مصطفى الخلف، المقيم في تل أبيض، في حديث لمنصة “سطور”: إنّ المسؤولية تقع على عاتق جميع الأطراف، ابتداء من المجلس المحلي في تل أبيض، ووزارة الصحة في الحكومة المؤقتة، وصولاً إلى قوات “قسد”، وذلك من أجل تسهيل مرور الحالات الإنسانية.
وأضاف الخلف أن وزارة الصحة تستطيع أن تفتح مركزاً لعلاج مرضى السرطان في المنطقة، كما فعلت في مدينة دير الزور، ولا سيما في ظل حالة الفقر المنتشرة في تل أبيض وريفها، ومن أجل تخفيف معاناة المرضى الناجمة عن السفر الشاق والمكلف. كما شدّد على ضرورة إنشاء مخبر لفحص المواد الغذائية الداخلة من تركيا، لضمان سلامتها وحماية صحة السكان من المواد الفاسدة أو غير المطابقة للمواصفات.
العريضة الشعبية والتحذير من كارثة إنسانية.
وفي موازاة ذلك، وجّه أهالي منطقتي تل أبيض ورأس العين عريضة شعبية للرأي العام المحلي والدولي، وقع عليها أكثر من 500 شخصية من مختلف الفئات الاجتماعية، شملت وجهاء وأعياناً محليين، ناشطين حقوقيين ومدنيين، معلمين، أطباء، ممرضين، ومزارعين، حذروا فيها من تفاقم الأزمة الإنسانية المستمرة منذ فرض “قسد” الحصار عام 2020، والذي حرم أكثر من 201 ألف شخص من حقوق أساسية في الصحة والتعليم والعمل.
تشير العريضة إلى حرمان مئات المرضى، بينهم مصابون بالسرطان والسكري وأطفال، من العلاج اللازم، إضافة إلى معاناة طلاب الجامعات والبكالوريا من انقطاع التعليم، وتدهور أوضاع الأرامل والأيتام، وارتفاع معدلات البطالة بين المزارعين والعمال. كما نبهت إلى تراجع الدعم الإنساني، ما يهدد بانهيار النسيج الاجتماعي في المنطقتين.
وطالب الأهالي بفتح ممرات إنسانية آمنة لنقل المرضى والطلاب، وتوفير دعم صحي عاجل ومستدام عبر الأدوية والتدريب الطبي، إلى جانب إيجاد بدائل تعليمية، ودعم الاقتصاد المحلي والمزارعين، وتعزيز برامج الرعاية الاجتماعية للأيتام والأرامل.
وأكدت العريضة أن استمرار الوضع الحالي قد يؤدي إلى كارثة إنسانية وانهيار كامل للاستقرار، داعيةً المنظمات الدولية والحقوقية للتدخل العاجل.
تساؤلات تبحث عن الإجابة حول غياب الحكومة السورية المؤقتة.
ويرى مراقبون وناشطون محليون أنّ مرضى السرطان في تل أبيض يعيشون الموت البطيء يومياً، وسط معاناة متزايدة وغياب أي دعم حكومي ملموس. ويشدّدون على أنّ استمرار هذا الواقع قد يحوّل الأزمة الإنسانية إلى كارثة شاملة، تهدد استقرار المنطقة وتزهق حياة المئات من الأبرياء، ما يجعل التدخل الفوري ضرورة عاجلة لا تحتمل التأجيل.
ويتساءل هؤلاء المراقبون بقلق: لماذا تظل الحكومة السورية المؤقتة غائبة عن مسؤولياتها تجاه تل أبيض، بينما المنطقة تقع ضمن نطاق سيطرتها؟




