آراء

بعد الخذلان العربي.. هل الخلاص في التطبيع؟

سبتمبر 21, 2025

بعد الخذلان العربي.. هل الخلاص في التطبيع؟

بعد ما أصاب العرب من خذلانٍ وتشتّتٍ في مسيرة صراعهم الطويل مع الكيان الصهيوني، وبعد أن انقطعت بهم الحيل وضاقت السبل، يطفو على السطح العربي سؤالٌ عميق في وجدان الأمة: هل يمكن أن يكون التطبيع مع الكيان مخرجاً يفتح أبواب الخلاص، أم أنّه يزيد الأمة وهناً فوق وهن؟ وهل يمكن أن تُبنى قوة حقيقية على تنازلٍ عن الثوابت والمبادئ والأرض؟ هذا التساؤل لا يقتصر على كونه نقاشاً سياسياً عابراً، بل يمثّل قراءة صريحة لضمير الأمة ووعيها الجمعي، وهو اختبار لإرادتها في اختيار طريق المقاومة مهما طال، أو السير خلف بريق الوعود القادمة من الكيان ومن القوى العظمى التي ترفع شعار السلام عبر دهاليز السياسة وموازين القوة.

أنصار التطبيع الذين يرونه بوابة للأمن والسلام والخروج من الأزمات، يتحدثون عن إسرائيل بوصفها حليفاً محتملاً في مواجهة أخطار مشتركة، مثل إيران، ويغري الخطاب الرسمي شعوب المنطقة –وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني– بوعود الاستثمارات الضخمة، والتكنولوجيا المتقدمة، وتدفق السياح، وفتح فرص اقتصاديّة جديدة. بل يذهب المؤيدون إلى أبعد من ذلك حين يزعمون أنّ التطبيع قد يشكّل أداة ضغطٍ دبلوماسي يمكن من خلالها إعادة طرح الحقوق الفلسطينية على طاولة المفاوضات، مقدّمين صورة تروّج للعلاقة مع الكيان باعتبارها عقد منفعة متبادلة يقوم على المصالح الاقتصاديّة والأمنيّة المشتركة.

غير أنّ المعارضين للتطبيع يرون وراء هذه الدعاية وجهاً آخر أكثر ظلاماً وخطورة. فالتطبيع –كما تؤكد دراسات كثيرة– لا يضيف شرعيّة أو منفعة حقيقيّة للأمة، بقدر ما يمنح الكيان شهادة شرعيّة جديدة تشرعن بها احتلاله واغتصابه للأرض، وتُضعف الموقف الفلسطينيّ، وتهمّش القرارات الدوليّة الداعمة للحقوق العربيّة. وفوق ذلك، يعمّق التطبيع الهوة بين الأنظمة العربية وشعوبها، إذ ترى الشعوب في هذه الخطوة خيانة للذاكرة الجماعيّة العربية، وتنازلاً عن ثوابت العقيدة والتاريخ والهويّة المشتركة. ويطرح المعارضون سؤالاً مركزياً: كيف يمكن بناء الثقة مع كيانٍ لم يتوقف يوماً عن توسيع المستوطنات، ومصادرة الأرض، وامتهان كرامة الفلسطينيين؟ في هذه الرؤية يصبح التطبيع شكلاً من أشكال الاستسلام المذل، لا طريقاً إلى سلامٍ عادل أو دائم.

وهكذا، فإنّ كلّ محاولات تزيين الطريق إلى التطبيع مع الكيان، مهما زُخرفت بالشعارات الاقتصاديّة أو الوعود السياسية، لن تغيّر من حقيقة جوهريّة ثابتة: هذا الكيان لا يُؤتمن، وهو لا يعرف سوى منطق القوة والهيمنة و”العربدة” في المنطقة. كل التجارب السابقة –من كامب ديفيد إلى أوسلو ووادي عربة– تؤكد أنّ وعوده سراب، وأنّ يده الممتدة لا تحمل إلا قيوداً جديدة مميتة. لذلك فإنّ الصراع بين العرب والكيان ليس خياراً مؤجلاً يمكن التهرب منه، بل قدرٌ لا مفرّ منه، لأنّ جوهر الأزمة لا يتعلق بترسيم حدود أو فتح معابر، بل يرتبط بوجود صراع عقدي ووجوديّ. فالكيان بُني على إنكار الآخر واقتلاع جذوره الفكريّة والتاريخيّة، وأيّ محاولةٍ للتعايش معه تعني في جوهرها القبول بهذا الإنكار.

وإن بدا التطبيع عند البعض مخرجاً من أزمات اللحظة الراهنة، فإنّ التاريخ القريب والبعيد يخبرنا بأن الصدام قادم لا محالة، وأنّ المواجهة محتومة مهما تعددت الطرق والتبريرات. فالكيان الذي يفاخر بسطوته لا يمنح السلام، بل يفرض الاستسلام، وما يقدّمه من وعودٍ خادعة ليس إلا قناعاً لهيمنةٍ أشدّ وأطول. ومن ثم يبقى السؤال الحقيقي ليس هل نطبّع أو لا نطبّع، بل كيف نحافظ على ما تبقى من إرادة وكرامة، وكيف نصوغ مشروعاً عربياً يعيد للأمة ثقتها بقدرتها على المقاومة والبقاء، بعيداً عن وهم الخلاص في أحضان من كان ولا يزال سبباً في كلّ هذا الخذلان.

شارك

مقالات ذات صلة