مدونات

«صناعة الجهل» في زمن المؤثرين: من سلطة المعرفة إلى هيمنة الصورة!

سبتمبر 21, 2025

«صناعة الجهل» في زمن المؤثرين: من سلطة المعرفة إلى هيمنة الصورة!

الكاتب: عبدالرحمن حسنيوي

هل يمكن للجهل أن يُصنَع كما تُصنَّع البضائع في المصانع؟ سؤال يبدو غريباً للوهلة الأولى، لكنّه يعكس واقعاً يتشكّل أمام أعيننا، حيث يتقاطع الوهم مع الحقيقة، وحيث يصبح المؤثر – لا الفيلسوف ولا الباحث – هو مهندس المعنى وصانع الرأي العام. إنّنا نعيش في عصرٍ لم تعد فيه المعلومة وحدها قادرة على خلق المعرفة، لأنّ وفرتها المفرطة وغياب سياقاتها حوّلاها إلى ضجيج رقميّ هائل، وفي قلب هذا الضجيج يولد ما يمكن أن نسميه «اقتصاد الجهل»، اقتصاد يعيد تشكيل وعي الأفراد وفق منطق السوق لا منطق الحقيقة.

قديماً قال سقراط إنّ «الوعي بالجهل هو بداية الحكمة»، لكن في زمن المؤثرين لم يعد الجهل اعترافاً بحدود المعرفة، بل صار أداةً لتسويق الوهم، أداة مربحة لها قيمة سوقية في صناعة الرأي العام. فالمؤثر لا يبيعك الجهل بوصفه جهلاً، بل يقدمه في هيئة معرفة جاهزة للاستهلاك، كأن الشاشة منحت كلماته سلطة تفوق سلطة الكتب والمراجع والخبراء والعلماء. نرى ذلك في صناعة «التنمية البشرية» التي تختزل مشكلات الفقر والبطالة والاغتراب النفسيّ في عبارات براقة مثل: «غيّر تفكيرك تتغير حياتك». ملايين الشباب يتابعون هؤلاء المؤثرين لأنّهم يقدمون وصفات سحرية للحياة، لكنها وصفات مُعلّبة تتجاهل تعقيد الواقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ. وهكذا يتحوّل الفراغ الفكريّ إلى سلعةٍ قابلة للتداول، بينما يتحوّل الإنسان المستهلك إلى كائنٍ يطلب الوهم طوعاً لأنّه مريح وسهل الفهم.

هنا يمكن استدعاء الفيلسوف الفرنسي غي ديبور الذي تحدّث في كتابه «مجتمع الفرجة وصناعة الإنسان ذو البعد الواحد» عن تحوّل الواقع إلى استعراضٍ دائم، حيث تُستبدل الحقيقة بالتمثيل، والوجود بالظهور، والمعرفة بالفرجة. ومن ثمة، فمؤثرو وسائل التواصل الاجتماعي يجسدون هذا التحول بالكامل؛ فهم لا يناقشون القضايا المعقدة، بل يحولونها إلى مقاطعٍ مرئية جذّابة تختزل العالم في شعاراتٍ سهلة الهضم. خذ مثلاً النقاشات حول القضايا البيئية الكبرى مثل التغير المناخي: بدل تحليل السياسات الصناعيّة والاقتصاديّة التي تقف وراء الكارثة البيئية، تتحوّل المسألة إلى تحديات «صديقة للبيئة» على إنستغرام وتيك توك، حيث تختزل الأزمة إلى صور وفيديوهات قصيرة يمكن إعادة مشاركتها بسهولة، بينما يختفي البعد السياسيّ والاقتصاديّ للأزمة خلف فلاتر زاهية وألوان جذابة.

أما ميشيل فوكو فيمنحنا عدسة أعمق لفهم هذه الظاهرة حين تحدّث عن تواطؤ السلطة والمعرفة، لكن في زمن المؤثرين لم تعد السلطة حكراً على الدولة أو المؤسسات، بل أصبحت موزعة بين الخوارزميات التي تدير تدفق المعلومات والمؤثرين الذين يملكون القدرة على تشكيل الرأي العام. فالخوارزميات تكافئ المحتوى الذي يثير التفاعل لا المحتوى الصادق، وتفضل ما يثير الغضب أو الصدمة أو الضحك على أيّ تحليلٍ عقلاني متزن. رأينا ذلك بوضوح خلال جائحة كورونا، حين تفوقت مقاطع نظريات المؤامرة حول اللقاحات على بيانات منظمة الصحة العالمية من حيث الانتشار والتأثير، لأنّ الخوارزمية لا تعترف بالصدق معياراً، بل بالتفاعل وعدد الإعجابات والتعليقات. وهكذا يصبح الجهل منظّماً ويُعاد إنتاجه وصيانته، لأنّ فيه قيمة اقتصاديّة وسياسيّة تبقي الجمهور في حالة استقطاب وانفعال دائمين، ما يجعلهم مستهلكين مثاليين للمزيد من المحتوى والمزيد من الإعلانات.

ويأخذ جان بودريار الأمر إلى مستوى آخر في حديثه عن «المحاكاة وما فوق الواقع». ففي هذا العالم لا تعود هناك حقيقة يمكن الرجوع إليها، لأنّ التمثيلات والصور تحل محل الواقع نفسه. فالمؤثر الذي يتحدث عن «الحياة المثالية» على إنستغرام، بفلتر لامع وابتسامة دائمة، لا يصف الحياة كما هي، بل ينتج نسخة محاكية للحياة، نسخة أكثر إغراءً من الواقع نفسه. يصدقها الناس لأنها أجمل من الحقيقة، وهنا يكمن الخطر العميق: نحن لا نعيش في عصر الجهل بالمعنى التقليديّ، بل في عصر معرفة زائفة، معرفة تتكاثر بلا أصل، مثل المرايا المتقابلة، حيث تختفي الحدود بين الحقيقة والوهم، ويصبح التمييز بينهما غير ضروري لأن المستهلك يريد المتعة لا الحقيقة.

الأمثلة على هذا الواقع كثيرة. ففي انتخابات عدة دول لعب المؤثرون دوراً محورياً في نشر معلومات مغلوطة عن المرشحين أو الأحزاب، ما أثّر فعلياً على النتائج. وقد أظهرت الدراسات أن الأخبار الكاذبة تنتشر أسرع من الأخبار الحقيقية على تويتر وفيسبوك، لأنّ الكذب غالباً ما يكون مثيراً للدهشة والغضب أكثر من الحقيقة. وفي سوق الصحة والجمال، يروّج بعض المؤثرين منتجات «معجزة» لخسارة الوزن أو علاج الأمراض دون أيّ أساسٍ علمي، مستفيدين من ثقة المتابعين وغياب أيّ مساءلةٍ. أما في الجانب الأكثر خطورة، فهناك تحديات على تيك توك مثل «تايد بود» الذي دفع مراهقين إلى أكل كبسولات الغسيل لأجل المشاهدات، ما أدى إلى حالات تسمم عديدة، فيصبح الجهل أداة للترفيه حتى لو كان الثمن حياة البشر أنفسهم.

في النهاية يبقى السؤال الأهم: هل يمكن مقاومة هذه البنية التي حوّلت الجهل إلى صناعة مربحة؟ الحلول المتاحة بطيئة ومعقّدة، لكنّها ضرورية. فالأمر يتطلب منّا جميعاً العودة إلى القراءة العميقة، والانخراط في الحوار النقديّ، ومساءلة السلطة المعرفيّة التي تتحكم بها الخوارزميات، كما تصبح التربية الإعلاميّة ضرورة وجوديّة، إذ تمنح الأفراد القدرة على التمييز بين الحقيقة والزيف وفهم الطريقة التي يُصاغ بها وعيهم عبر الصور والخطابات المختزلة والمبتذلة والتافهة. ربما تبدو هذه المقاومة أبطأ من إيقاع المنصات، لكنّها الطريق الوحيد لإيقاف هذا الطوفان اليوميّ من الجهل المتنكر في صورة معرفة.

شارك

مقالات ذات صلة