مدونات

الفاصلة المنقوطة: من الوظيفة الشكلية إلى معنى للحياة!

سبتمبر 21, 2025

الفاصلة المنقوطة: من الوظيفة الشكلية إلى معنى للحياة!

الكاتبة: فاطمة الزهراء حبيدة

الكثير سيثيره هذا العنوان الغريب، لكن دعوني أحدثكم عن السياق، كنت بصدد تصحيح إحدى النصوص، واستشرت زميلي لكن هذه المرة أبدى ملحوظة على غير العادة، فتارة كان ينبهني إلى ركاكة تعبيري، وتارة إلى أخطائي الإملائية، لكن هذه المرة قال لي: “انتبهي نوعي من علامات الترقيم، الفاصلة المنقوطة مهمة، لكنّها مهملة عند الكثير”، راجعت نصوصي ووجدتها فعلًا مهملة كثيرًا في كتباتي، ولم أتساءل عن وظيفتها الأساسية في التعبير وإضفاء المعنى للعبارات، وحتى إن وضعتها تكون مجرّد ترفٍ شكليّ فقط، متناسية دلالتها الشكلية وتأثيرها على تركيبة الجملة.

يمكن أن يتبادر للبعض أنّ وظيفة “الفاصلة المنقوطة” تتحدد في كونها علامة للترقيم فقط (كما كنت أظنّ سلفا) لكنّها تتجاوز الوظيفة الشكلية، للحدِّ الذي يجعلها تضفي معنى للتشبث بالحياة نظرًا للتفسيرات الوظيفيّة، ويتأتّى هذا المعنى انطلاقًا من دلالتها الشكليّة، فالفاصلة المنقوطة، تلك العلامة التي لا ننتبه لها، رغم عمقها، التي توحي بمعاني كثيرة إذ تأملناها، ففي العادة نضع النقطة عندما ننهي الفكرة أو الفقرة، ونضع الفاصلة عندما نستشعر أنّ المعنى اكتمل وإن كان ينقصه بعض الأفكار، لكن الفاصلة المنقوطة علامة غريبة نوعًا ما، فهي تدل على النهاية لكن دون أن تكتمل الفكرة، وتدل على النقصان مع وجود ملامح الاكتمال، فهكذا هي تعبير عن النهاية دون نهاية، تعبير عن اكتمال لكن بوجود نقصان، كأن تقول كلّ شيءٍ لكن مازال المزيد لم يُقل، واختلف النحويون كثيرًا حول وظائفها، فهي العلامة المهملة مقارنة بعلامات الترقيم الأخرى، لكن ألا يجب أن نعطي للأشياء المهملة حقها، وإن بدت بصورة غير مألوفة، فكثيرة هي الأشياء المهمة لكن نتجاهل وظيفتها التي وُجدت من أجلها، فيغرقنا الاعتياد في استعمال أشياء فقط لأنّنا اعتدنا القيام بها بشكل تلقائي وميكانيكي، دون التفكير في جدواها وحاجتها العميقة.

مشروع “الفاصلة المنقوطة”: لمكافحة الامراض النفسية والوقاية من الانتحار.

توحي “الفاصلة المنقوطة” بوقفة لوهلة لكن دون نهاية، وهذه الدلالة كانت فرصة لاستلهام مجموعة من التجارب، من بينها “مشروع الفاصلة المنقوطة” لمنظمة “إيمي بلويل” “AMY BLEUL” التي أُنشئت سنة 2013 وهي حركة غير ربحية، تهتم بالصحة النفسيّة والعقلية والوقاية من الانتحار، ويأتي رمز الفاصلة المنقوطة كتعبيرٍ عن وقفة يحتاجها المرء عندما تجتاحه المعاناة والألم، وأنّ المعاناة مجرّد وقفةٍ بسيطة في الحياة، والحث على الاستمرار بغض النظر عن الصعوبات، والشعار الأساسيّ لهذه المنظمة/ الحركة هو “عدم التوقف عندما تتمكن من الوصول إلى أبعد من ذلك”، والمعنى المستخلص هو التشبّث بالأمل، والاستمرار رغم ما ينال المرء من أفكار سامة قد تؤدي لإيذاء النفس أو الانتحار، كما اتخذ الرواد والمنتمين للمنظمة من رمز الفاصلة المنقوطة شعار على معصمهم، أو ملابسهم للتذكير بالرسائل الإيجابيّة، وتثبت تجربة “مشروع الفاصلة المنقوطة” التحوّل الوظيفيّ لعلامة ترقيم، والدلالات الخفية التي تعبر عنها، وتحوّلها من أداة نحويّة إلى شعارٍ للصلابة النفسية.

 الفاصلة المنقوطة من منظور المتخصصين.

اخترعت الفاصلة المنقوطة من قبل “ألدوس مانوتيس” في البندقية عام 1494 (مجلةthe paris review) ، آنذاك لم تكن لها أدوار محددة، فقط دلالتها على التوقف البسيط بين جملة وأخرى كوظيفةٍ مشابهة للفاصلة، ووُصفت هذه العلامة بأنها “أكثر العلامات رعبًا” نظرًا للجهل بوظيفتها على عكس نظيرتها من العلامات كالنقطة، والفاصلة، تضاربت الآراء بين المختصين في اللغة، فبعضهم وصفها بعديمة الفائدة، فحسب موقع نيويورك تايمز عبر عالم النحو “جيمس كيلباتريك” “JAMES J.KILPATRICK” على أنها “أكثر علامات الترقيم جبنًا وعديمة الفائدة على الإطلاق، وكل ما تفعله هو إظهار أنّك ذهبت إلى الكلية”، ومن ينتمون لنفس التوجُّه، عبّروا على أنّها بينة عن عدم الإلمام بالقواعد اللغوية والشكلية كالذين لا زالوا يتمرّسون على الكتابة، وأنّها عيب شكليّ في النصوص الأدبيّة.

أمّا الفئة الأخرى التي استحسنت وظيفتها كـ”سيسليا واتسون” متخصصة في الدراسات المفاهيميّة والتاريخيّة للعلوم، فألفت كتابًا يحمل عنوان: “الفاصلة المنقوطة: الماضي والحاضر والمستقبل لعلامة غير مفهومة”، وخصّصت كتابها لشرح وظيفة وتاريخ هذه العلامة، فمن كان يتصور أنّ علامة الترقيم هذه، ستستفز البعض، أو ستلهم البعض الاخر لكتابة كتاب بشأنها، فما هو مهمل لدى العامة، قد يكون مهما لجهة أخرى.

كل هذه الدلالات تؤكد أنّنا لسنا أمام علامة ترقيم عادية، بل حمولة من المعاني في الحياة بين من يراها تعبيرًا عن حالةٍ نفسيّة، ومن يعتبرها أداة تؤدي وظيفة نحويّة، أو آخرون يرونها عديمة الجدوى، لكن مع كلّ الانتقادات الموجّهة للفاصلة المنقوطة والتبخيس لوظيفتها، إلا أنّ هذا الامر يؤدي لاستنتاج حكمة بالغة الأهمية تتجلّى في ضرورة قراءة الأشياء بعمقٍ أكثر واستكشاف معانيها بشكلٍ واسع، والابتعاد ضيق الأفق.

شارك

مقالات ذات صلة