مجتمع

التسوّل في حلب.. بين الحاجة والاستغلال

سبتمبر 20, 2025

التسوّل في حلب.. بين الحاجة والاستغلال

في شوارع حلب، لم تعد الأرصفة مجرّد ممراتٍ للمارة، بل تحوّلت إلى مسارحٍ يوميّة لقصص البؤس والحرمان. وجوه متعبة، وعيون تروي حكايات من الفقر والانكسار، وأيادٍ صغيرة ممدودة تستجدي الرحمة قبل النقود. مشاهد باتت مألوفة إلى حدّ الاعتياد، لكنّها تخفي خلفها واقعًا مؤلمًا يستحق التوقف عنده كثيرًا.

 

ظاهرة التسوّل التي تجتاح المجتمع تثير تساؤلات عميقة: هل هي نتيجة فقر وضيق عيش فعليّ، أم أنّها تحوّلت إلى “مهنة” سهلة لكسب المال دون الحاجة إلى مهاراتٍ أو تعليم أو حتى مشروع بسيط؟ البعض يراها وسيلة سريعة للربح، بينما آخرون يرون فيها انعكاسًا لغياب الحماية والرعاية للفئات الأكثر هشاشة.

 

ومع تزايد انتشار الظاهرة، خاصة في مدينة حلب التي تُعد العاصمة الاقتصاديّة لسوريا، بدأت ملامح أكثر تعقيدًا بالظهور، من أبرزها وجود شبكات منظّمة تتولى توزيع المتسولين على أماكن محددة في المدينة. ومنهم من يعمل بشكل فردي، ومنهم من هو محتاج فعلاً، وهنا يصعب علينا التمييز بينهم، إذ يستهدف هؤلاء غالباً الأحياء الراقية والمناطق التجاريّة.

 

 

تجربة مواطن

يقول أحد المواطنين في سنة 2019 كنت أراقب المشهد يوميًّا من شرفة مكتبي. في تمام العاشرة صباحًا، كانت سيدة ترتدي ملابس رثة وتجلس في زاوية الشارع، تطلب المساعدة من المارة. كانت قصتها تبدو مؤثرة، وكنت أرى الكثيرين يتعاطفون معها. لكن في نهاية اليوم، وقبل حلول المساء، لاحظت شيئاً لم أكن أتوقعه. بعد أن غابت الأنظار عنها، قامت من مكانها وتوجهت إلى سيارة يقودها رجل، بدّلت ملابسها المتسخة بملابس عادية، ووضعت المال الذي جمعته في حقيبة،  وغادرت. في ذلك اليوم، أدركت أنّ التسول ليس دائماً نتيجة فقر، بل قد يكون “مهنة” منظمة يديرها من يجيدون الاستغلال.

 

 ووفقًا لشهادة أحد أصحاب المحلات في حي حلب الجديدة، فإنّ أغلب المتسولين يتمركزون قرب البنوك، ومحال الصرافة والذهب، والمطاعم، وإشارات المرور، والمساجد، خاصة في أيام الجمعة. في ظل هذا الواقع، يبقى السؤال الجوهريّ: هل نكتفي بمراقبة المشهد من بعيد، أم نبدأ فعلًا بالبحث عن حلولٍ تُعيد للشارع هيبته، وللإنسان كرامته؟

 

بحسب ما أوردته صحيفة “الحريّة” السوريّة، يُقدَّر عدد المتسولين في مختلف المحافظات السوريّة بنحو 250 ألف متسول. وتشير الإحصائيات إلى أنّ نسبة الإناث بينهم تبلغ 51.1%، مقابل 49.9% من الذكور. كما يُشكّل الأطفال ما يقارب 10% من إجمالي المتسولين، أي ما يعادل نحو 25 ألف طفل، يُمارس العديد منهم التسول بشكلٍ منظَّم واحترافي.

 

 

التسول: أزمة مجتمعية تنطلق من الأسرة

تناقش المستشارة النفسيّة والباحثة الاجتماعيّة  عائشة عبد الملك أبعاد ظاهرة التسول فتعتبر الأسرة الحاضن الأول الذي يُشكّل شخصيّة الإنسان ويغرس فيه القيم الأساسيّة مثل الكرامة، القناعة، والاعتماد على الذات، وهي التي تحدّد موقف الفرد من العمل والتسول. وبعد الأسرة، يأتي دور المؤسسات التعليميّة في ترسيخ هذه القيم، ولكن عندما تتآكل هذه الحاضنة الأساسيّة، كما حدث في الوضع السوريّ، تظهر ظاهرة التسول نتيجة مباشرة لانهيار المنظومة الاجتماعيّة والأخلاقيّة.

 

كانت الحرب المحرك الأساسي لتفشي هذه الظاهرة، حيث أضعفت الأسرة والمؤسسات التعليميّة في ظل ظروف القصف والبحث عن الأمان ولقمة العيش، تلاشت الأولويات المتعلقة بالتربية وبناء القيم. في خضم هذه الظروف القاسية، غابت التربية وتلاشت القيم عن الأجيال، كما أنّ فقدان الأهل ترك أعداداً كبيرة من الفئات الهشّة دون سند، مما دفعهم إلى الشارع.

 

 

هشاشة المجتمع وقوة المتسولين

إنّ التسوّل ليس مجرّد مشكلةٍ اقتصاديّة، بل هو ظاهرة معقّدة تزرع في نفوس المتسولين شعوراً عميقاً بالدونية وتجعلهم عرضة للاستغلال. وقد تسبب تكرار مشاهد المتسولين في خلق نوع من “التبلد العاطفي” لدى المجتمع، ممّا جعل هذه المأساة أمراً مألوفاً يفقد أهميته الإنسانيّة. الشارع اليوم هو انعكاس للوضع الاجتماعيّ الراهن، ودليل على الفجوة الكبيرة التي خلقتها الحرب.

 

ولكن رغم هذا الواقع المرير، فإنّ التسوَّل ليس قدراً حتمياً. فالأفراد الذين يعيشون على هامش المجتمع يمتلكون قوةً ومرونة فريدة من نوعها. فالتجارب الصعبة التي يمرون بها تصقل شخصيتهم وتمنحهم قدرة على الصمود والمقاومة. وبما أنّني عملت شخصيًّا مع فئات هشّة من النساء والأطفال، أؤكد أنّ هؤلاء الأفراد، حتى من تعرضوا للإقصاء والإهانة، يمتلكون قدرةً هائلة على التغيير إذا تمَّ العمل معهم بشكلٍ صحيح. أحلامهم يمكن أن تتحقق، ويمكنهم أن يصبحوا أفراداً فاعلين في المجتمع.

 

 

الحلول الممكنة: من الأمل إلى العمل

ترى عبد الملك أن معالجة ظاهرة التسول تتطلب مسؤولية مشتركة لا تقع على عاتق طرف واحد. فلا يمكن للدولة أن تتحمل هذا العبء وحدها، بل يجب أن تدعم مؤسسات المجتمع المدنيّ وتسهل عملها، لأنّ التكافل والتكامل بين الجهات الحكوميّة والمجتمع المدني أصبح ضرورة ملحة.

يجب أن تبدأ الحلول بنشر الوعي، وتقديم الدعم المباشر للأسر الفقيرة، وتوفير برامج تأهيل متكاملة. لتحقيق الدمج الحقيقي، لا بدّ من:

التعليم والتدريب المهني: لتمكينهم من الاعتماد على أنفسهم.

 

الدعم النفسيّ: لإعادة بناء ثقتهم بأنفسهم.

الإشراك المجتمعيّ: لتعزيز شعورهم بالانتماء، وإبراز قصص نجاحهم.

إنّ العمل على إعادة تأهيل هذه الفئات هو استثمار في مستقبل المجتمع، ويُثبت أنّ التسوّل ليس قدراً، بل هو تحدٍ يمكن التغلب عليه بالعمل، الأمل، والتعاون.

 

الشؤون الاجتماعية والعمل 

في خطوة تهدف إلى تعزيز الجهود المجتمعية لمكافحة ظاهرة التسول التي تشهد تزايدًا في محافظة حلب، أعلن مدير الشؤون الاجتماعية والعمل  أ. عبد الرحمن الحافض  فتح باب التقديم للشراكة مع إحدى المنظمات غير الحكوميّة لتنفيذ مشروع ترميم وتجهيز مبنى تابع للمديرية. ويأتي هذا المشروع جزءاً من الاستراتيجية المتكاملة التي تعتمدها المديرية لتوفير بيئة مناسبة لتقديم الخدمات الاجتماعيّة والدعم اللازم للفئات المتضررة. وتُعتبر هذه المبادرة محاولة لتعزيز القدرات المؤسسيّة والتنسيق مع الجهات الفاعلة في المجتمع المدني، بما يساهم في الحد من ظاهرة التسول وتحسين الظروف الاجتماعية في المحافظة.

 

 

الآثار النفسية للتسول 

وفي هذا السياق تؤكد الباحثة التربوية والنفسية آلاء الدالي على تعدُّد الآثار النفسية للتسوُّل، خاصة على الأطفال، لتشمل الشعور بالدونيّة وفقدان الثقة بالنفس، وتولّد مشاعر الحقد والعداء أو التوتر الدائم نتيجة البيئة غير المستقرة. هذه الظروف تؤدي إلى مشاكلٍ خطيرة مثل التعرض للتنمر والتحرُّش، والانجرار نحو أعمال غير قانونيّة. كما أنّ العزلة عن المجتمع الطبيعيّ تؤثر سلباً على الحالة النفسية للمتسولين.

 

يعتبر دمج هؤلاء الأفراد عملية معقدّة وتتطلب جهداً مستمراً ووقتًا طويلاً، وذلك لأنّ التسوُّل يرسّخ فيهم سلوكيات اتكالية. ورغم أنّ الأطفال لديهم قدرة أكبر على التكيف، فإنَّ من أهم التحديات هو غياب المراكز المتخصصة التي تؤمّن تأهيلاً كاملاً.

 

تتركز الحلول في إزالة الأسباب الجذريّة للمشكلة، وهي غالباً الفقر، وتوفير بيئة مناسبة ورعاية حقيقية (مسكن، طعام، ملبس) مع الابتعاد عن بيئة التسوُّل. ويجب أن تترافق هذه الخطوات مع تأهيلُ مهنيّ وفكري ّوسلوكيّ، وإعادة الأطفال إلى المدارس ومتابعتهم بشكلٍ مكثف.

 

 

المسؤوليّة مشتركة والحلول عمليّة

تُعدُّ المسؤوليّة الأساسيّة في حلِّ هذه الظاهرة هي مسؤوليّة المجتمع ومؤسسات الدولة، خاصة في ظل الظروف غير الطبيعية كالحروب. فالتوعية وحدها لا تكفي، بل تتطلب خطوات عملية بالدرجة الأولى. التوعية يجب أن تكون خطوة مرافقة للحلول العمليّة ولا تنفصل عنها.

 

في النهاية، الأثر النفسي على المتسول هو الأسوأ والأهم، حتى لو أدى تكرار مشاهدتهم إلى اعتيادها لدى الجمهور. فوجودهم وتأثرهم النفسي حقيقة مستمرة لا تقل أهمية، بل توجب الحل الفوريّ.

 

جرس إنذار اجتماعيّ لا يجوز تجاهله 

إنّ ظاهرة التسوُّل لم تعد مجرّد مشهدٍ مؤلم في الشوارع، بل هي مؤشر خطير على وجود فجوات اجتماعيّة واقتصاديّة عميقة تحتاج إلى معالجة جذريّة. فبينما يدفع البعض ثمن الفقر والعجز، يستغل آخرون تعاطف الناس لتحقيق مكاسب مادية، ممّا يجعل التفرقة بين الضحية والمستغل تحديًا حقيقيًّا. هذا المشهد يتكرر بشكلٍ لافتٍ في مدنٍ مثل حلب، حيث أصبح الفقر لا يرحم، وأصبح تعاطفنا فرصة للتجارة. الحل لا يكمن فقط في ملاحقة المتسولين، بل في بناء منظومة شاملة تحمي الفئات الأكثر ضعفًا وتضمن لهم الحد الأدنى من الحياة الكريمة.

 

 على الدولة أن تعزّز برامج الدعم الاجتماعيّ وتوفر فرص عمل وتأهيل حقيقية، فيما تقع على عاتق المجتمع مسؤوليّة الوعي ورفض تحويل كرامة الإنسان إلى وسيلةٍ للكسب. إنّ التسوُّل هو جرس إنذار اجتماعيّ لا يجوز تجاهله، فخلف كلّ يدٍ ممدودة حكاية قهر أو إهمال. والمواجهة الحقيقيّة لا تكون بالشفقة أو التجاهل، بل بحلول واقعيّة تبدأ من التعليم والدعم النفسيّ، ولا تنتهي عند تأمين فرص العمل والحياة الكريمة. 

 

نحن اليوم أمام خيار مصيري: إمّا أن نواجه هذه الظاهرة بشجاعةٍ وإرادة إصلاح، أو أن نستسلم لصورتها المتكررة ونعتادها حتى نصبح جزءًا من صمتها. التسوُّل ليس وصمة عار على الفرد، بل على جبين كلّ مجتمعٍ يتقبله. وحده المجتمع الواعي، بدعم مؤسساته، قادر على كسر دائرة الاتكالية وصناعة تغيير حقيقي يليق بكرامة الإنسان.

شارك

مقالات ذات صلة