فكر

من الخيمة إلى البرلمان: طريق المهجّرين نحو تمثيل سياسي عادل

سبتمبر 20, 2025

من الخيمة إلى البرلمان: طريق المهجّرين نحو تمثيل سياسي عادل

في نهاية 2024، انتقلت سوريا من عهد الاستبداد والظلم لمرحلة جديدةٍ انتقاليّة متسمة بإعادةِ تشكيلٍ للمؤسسات السياسيّة وبطريقةٍ عصريّة على أُسسٍ جديدة، ومِما ميّز هذه المرحلة هو بروز للبرلمانِ المؤقت، الذي أُنشئ بموجب الدستور الانتقالي الصادر في مارس/ آذار 2025، ليكون الإطار التشريعي الجامع إلى حين تنظيم انتخابات عامة في سبتمبر/ أيلول المقبل، في هذا السياق، يبرز سؤال جوهري يتعلق بملايين المهجّرين السوريين الذين ما زالوا يعيشون في المخيمات شمال البلاد: كيف سيُترجم حضورهم الديمغرافي إلى تمثيل سياسي فعليّ داخل البرلمان الجديد؟ هذا السؤال لا يرتبط فقط بعدالة التمثيل، بل بمستقبل العملية السياسيّة نفسها، ومدى قدرتها على أن تشمل الفئات التي دفعت الثمن الأكبر خلال سنوات الحرب.

 

حتى نهاية عام 2024، كان البرلمان السوري المعروف بمجلس الشعب مؤسسة شكلية تدور في فلك حزب البعث، ورغم تعدد القوائم والمرشحين، بقيت النتائج محسومة سلفاً لصالح ما يُعرف بالجبهة الوطنية التقدمية وحلفائها، ما جعل المجلس أشبه بواجهة سياسيّة لنظام الأسد البائد، أكثر من كونه سلطة تشريعيّة مستقلة، هذا الواقع تغيّر جذرياً بعد سقوط نظام الأسد في ديسمبر/كانون الأول 2024 ودخول قوى الثورة إلى دمشق، حيث جرى تعليق العمل بالدستور السابق وحلّ البرلمان القديم.

 

في مارس/ آذار 2025، أصدر الرئيس الانتقالي أحمد الشّرع إعلاناً دستورياً مؤقتاً أسس لمرحلة انتقالية مدتها 5 سنوات، نصّ على إعادة هيكلة السلطات التنفيذيّة والتشريعيّة، بموجب هذا الإعلان، وأُنشئ “المجلس الشعبيّ” ليكون الهيئة التشريعيّة المؤقتة، مكوّناً من 210 مقاعد، ثُلثها يعيّنه الرئيس مباشرة، فيما يتم اختيار الثلثين الباقيين عبر لجان انتخابيّة محليّة بنظام غير مباشر.

 

وقد أعلنت الحكومة الانتقاليّة عن إجراء أول انتخابات برلمانية في سبتمبر/ أيلول 2025، بين 15 و20 الشهر، لتشكيل المجلس الجديد، هذه الانتخابات ستكون بمثابة الاختبار الأول لجدية المرحلة الانتقاليّة، ولقدرة النظام السياسي الوليد على إنتاج مؤسسة تشريعية أكثر تمثيلاً من سابقتها.

 

تمثيل المهجّرين أولاً

يشكّل المهجّرون السوريون إحدى أكبر الكتل السكانيّة في البلادِ بعد سقوط نظام الأسد البائد، وتشيرُ تقديراتُ المنظماتِ الإنسانيّة إلى أنّ ملايين الأشخاصِ ما زالوا يعيشونَ في خيامٍ موزعةٍ على الشمالِ السوريّ، معظمُهم من أبناءِ محافظاتِ ريف دمشق، وحمص، وحلب، ودرعا، ودير الزور، إضافة إلى إدلب.

 

 هذه الكتلةُ البشريةُ الضخمةُ لم تحظَ طوالَ عقودٍ بتمثيل سياسيّ حقيقيّ، بل جرى التعامل معها كأرقامٍ في تقاريرِ الإغاثةِ أو كملفٍّ أمنيّ بيدِ السلطةِ السابقة، فغيابُ الصوتِ السياسيِّ للمهجّرين لم يكن عرضياً، بل نتيجةً مباشرةً لسياساتِ التهميش التي مارسها نظامُ الأسد البائد، حتى في البرلمان السابق، الذي احتكرَ البعثُ مقاعدهُ عبرَ آلياتٍ انتخابية شكلية، لم يكن هناكَ أيُّ تمثيلٍ للمهجّرين أو النازحين داخلياً، ومع تحوّل المخيمات إلى مدنٍ من الخيام هرباً من قصفِ الأسد ومليشياته، تراكمت معاناةٌ يوميّة جعلتْ شريحةً واسعةً من المجتمعِ السوريّ خارجَ دائرة القرار.

 

اليوم، مع بدء المرحلة الانتقاليّة وتشكيلِ المجلسِ الشعبي الجديد، يبرز سؤال جوهريّ: كيف يمكن ترجمة هذه الكتلة الديمغرافية إلى قوةٍ سياسيّة داخل البرلمان؟ فالخيمة لم تعدْ مجرّد مأوى مؤقت، بل رمزاً لتجربةٍ طويلةٍ من الإقصاء، في حين أنّ البرلمان يمثلُ الإطارَ الذي يمنحُ الاعترافَ والكرامة.

تمثيلُ المهجّرين ليس مطلباً إنسانياً فقط، بل هو شرطٌ لبناءِ شرعيّة أيّ سلطةٍ جديدة، فمن دونِ إشراكِ هذه الفئةِ في صنعِ القرار، سيبقى جزءٌ كبيرٌ من السوريينَ خارجَ المعادلة السياسيّة، وهو ما يهددُ استقرارَ المرحلة الانتقاليّة ذاتها، وعلى الحكومة الانتقاليّةِ أن تعي أنّ إدماجَ المهجّرين في البرلمان هو خطوةٌ نحو إعادةِ صياغةِ العقد الاجتماعي، بحيث يشعر سكّان الخيام أنّ لهم مقعداً وصوتاً في رسم مستقبل البلاد.

 

 

عقبات المشاركة السياسيّة

رغم أهميةِ إدماجِ المهجّرين في العمليةِ السياسيّة، إلا أنّ الطريقَ إلى مشاركةٍ فعليةٍ داخلَ البرلمانِ الانتقالي مليءٌ بالتحديات، أول هذه التحديات يتعلق بآليات التسجيل والاقتراع، فالمخيمات المنتشرة شمالَ سوريا تضمُ ملايينَ الأشخاص، لكن غالبيتهم يفتقرونَ إلى أوراقٍ ثبوتيةٍ صالحةً بعد فقدانها خلالَ سنواتِ النزوح، هذا الواقع يعقّد عمليةَ تسجيلِ الناخبينَ ويجعلهم عُرضةً للإقصاء، سواءً بقصد أو نتيجةً لقصورٍ إداري.

 

إلى جانب ذلك، تعاني المخيماتُ من ضعفِ البنيةِ التحتية، إذ لا توجدُ مراكز انتخابيّة مجهّزة، فأيّ عمليةِ اقتراع داخلَ هذه البيئة قد تتحولُ إلى مهمةٍ لوجستيّةٍ بالغةِ الصعوبة، خصوصاً في ظلِّ الحاجةِ لتأمينِ الحمايةِ الأمنيَّة ومنعِ التلاعب.

 

الظروف الإنسانيَّة تضيف طبقةً أُخرى من التعقيد، فالأولويةُ لدى سكّان المخيمات تبقى تأمين الغذاءِ والمياه والرعايةِ الصحية، لا الانخراطَ في إجراءاتٍ انتخابيّة طويلة، كما أنّ الفقرَ المدقعَ يفتحُ البابَ أمامَ محاولاتِ شراءِ الأصوات أو توجيهها من قبل قوى محليّة أو إقليميّة، ما يهدد نزاهة الانتخابات.

تتداخلُ هذهِ العقباتُ مع تحدّياتِ الثقة؛ فالكثيرُ من المهجّرينَ ما زالوا ينظرونَ بعينِ الريبة إلى أي عمليّة سياسيّة، بعد عقودٍ من التجاربِ المزوّرة، وإذا لم ترافقِ الانتخابات إجراءاتٍ شفّافة ومراقبةً مستقلّة، فإنّ شريحةً واسعةً من المخيماتِ قد تختارُ العزوف عن المشاركة.

 

إنّ ضمان مشاركةِ المهجّرينَ يتطلّب معالجةَ هذه المعضلاتِ بشكلٍ استباقي: توفيرُ أوراقِ ثبوتية بديلة، إنشاءُ مراكز اقتراع متنقلة أو مؤقتة داخل المخيمات، وتقديم ضمانات قانونية وسياسية لنزاهة العملية.. دون ذلك، قد يتحوّل البرلمان الجديد إلى مؤسسةٍ ناقصةِ الشرعية، عاجزةً عن تمثيلِ ملايين السوريينَ الذينَ دفعوا الثّمن الأكبر في رحلة النزوح.

 

 

الفرصة التاريخيّة للحكومة الجديدة

في المخيمات الممتدة على أطرافِ الشمال السوريّ، لا تبدو السياسة موضوعاً بعيداً كما يعتقد البعض.. الناسُ هناك يتحدثونَ عنِ البرلمانِ الجديد كما يتحدثونَ عن الخبزِ والماء، فبعدَ أعوامٍ من العزلة، صاروا يرونَ أن أيّ برلمانٍ لا يضعُ قضاياهم في المقدمةِ لن يكونَ سوى نسخةً مشوهةً مما عانَوه سابقاً، هذا الوعي الشعبي هو ما يضعُ الحكومةَ الانتقالية أمامَ لحظةٍ فارقة، إما أن تُثبتَ من خلالها أنّها حكومةً لكل السوريين، أو أن تخسرَ ثقة شريحةٍ لا يمكن تجاهلها.

البرلمانُ المؤقتُ الذي تشكّل بعد سقوطِ نظام الأسد حددَ لنفسه 210 مقاعد، لكن الشرعيّةَ الحقيقية لن تأتي من الأرقام، بل من شموليةِ التمثيل، ملايينِ المهجّرين في الخيام يشكّلونَ فسيفساءَ من مختلف المحافظاتِ السوريّة، من حمص وحماة إلى درعا وحلب، وجميعهم ينتظرونَ إشارةً واضحة بأنّ وجودهم السياسيّ مُعترفٌ به.

 

الحكومةُ أمامَ فرصةٍ لتصحيحِ تاريخٍ طويلٍ من التهميش.. يمكنها أن تبدأ بخطواتٍ عمليةٍ مثلَ تخصيصِ حصص مضمونةٍ للمهجّرين، وتبسيطِ التسجيلِ عبرَ فرقٍ ميدانيةٍ تدخلُ المخيمات، إضافةً إلى اعتمادِ مراكز اقتراعٍ متنقلةٍ أو رقميةٍ تُراعي الظروفَ الإنسانيّة، مثلَ هذهِ الإجراءات لن تمنح البرلمان مقاعد إضافيّة فقط، بل ستعيدُ صياغةَ العلاقة بين الدولةِ والمواطنِ على أساسِ المشاركة.

 

الرهان يتجاوز الداخل، فالمجتمعُ الدولي يراقبُ بدقة، ويرى في إشراكِ المهجّرينَ مؤشراً على جدّية المرحلةِ الانتقالية. أيّ حكومةٍ قادرة على تحويلِ المخيّم من رمزٍ للتهميش إلى رافعةٍ للشرعية، ستكون قد خَطت خطوةً كُبرى نحو عقدٍ اجتماعيٍّ جديد، إنّها بالفعل فرصةٌ تاريخيَّة، والرهانُ الآن على ألا تضيع.

 

دور المهجّرين أنفسهم

الطريقُ من الخيمةِ إلى البرلمانِ لا يمرُّ فقط عبرَ قراراتِ الحكومةِ أو نصوصِ القوانين، بل يحتاجُ أيضاً إلى إرادةِ المهجّرين أنفسهم، فالتجربةُ أثبتتْ أنّ انتظارَ الحلول من الأعلى غالباً ما ينتهي بمزيدِ من الوقت، بينما التنظيمُ الذاتي يمنحُ المجتمعات الهشّة صوتاً أقوى وفُرصاً أكبر للتأثير.

 

اليوم، أمامَ المهجّرين فُرصة لتشكيلِ قوائمَ انتخابيّة تُعبّر عنهم مباشرة، بدلاً من أن يُختاروا بالوكالةِ من شخصياتٍ بعيدة عن واقع المخيمات، هذا التنظيم يمكنُ أن يبدأ من مبادراتٍ صغيرةٍ داخل الخيام: لجان شبابيّة، تحالفات بين وجهاء من محافظاتٍ مختلفة، أو مجموعاتٍ مدنيّة تعمل على تدريبِ المرشحين وإعدادِ برامجَ انتخابيّة واضحة.

 

الوعي السياسيُّ الجديد الذي تشكّل في المخيمات ليسَ وليدَ التنظير أو الكُتب، بل جاءَ من الألمِ والتجربةِ اليوميّة: من صفوفِ الانتظار على مياهِ الشرب، ومن مشهدِ الأطفالِ الذين يكبرونَ بلا مدارس، ومن الإحساسِ الدائمِ بأنّ أحداً لا يسمعُ أصواتهم، هذه التجربةُ خَلقت إصراراً مُختلفاً على أن تكونَ للمهجّرينَ مقاعد حقيقيّة في أيِّ برلمانٍ قادم.

 

إنّها مسؤولية مشتركة: الحكومةُ مُطالبة بفتحِ الأبواب، لكن المهجّرينَ أنفُسهم مطالبونَ بطرقها بقوة، فالمشاركةُ الفعّالة لا تُمنح، بل تُنتزع عبر الوعي والتنظيمِ والقدرةِ على فرض الحضور.

 

من الخيمة إلى البرلمان، يبدأُ طريقُ الاعترافِ الحقيقيّ بالمهجّرين، حيث تتحوّل المعاناةُ إلى حضورٍ سياسيّ، ليُصبحَ الصوت المفقود جزءاً من سوريا الجديدة.

شارك

مقالات ذات صلة