سياسة

اتفاقية السويداء: من الفوضى المحلية إلى اختبار السيادة السورية

سبتمبر 18, 2025

اتفاقية السويداء: من الفوضى المحلية إلى اختبار السيادة السورية

 

لم تكن السويداء يوماً محافظة عابرة في الجغرافيا السورية، فهي تمثل ثقلاً اجتماعياً وتاريخياً له جذوره العميقة في هوية الدولة السورية المعاصرة، غير أنّ ما شهدته المحافظة منذ تموز/ يوليو 2025 كشف عن هشاشة الوضع الداخلي، حيث انفجرت الاشتباكات بين مكونات محلية، خصوصاً بين بعض العشائر البدوية والطائفة الدرزية، في مشهد يذكّر السوريين بأيام الصراع الأهلي التي لطالما ظنوا أنها محصورة في مناطق أخرى من البلاد، هذه المواجهات لم تكن وليدة لحظة عابرة، بل كانت حصيلة تراكمات من التوترات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، غذّتها سنوات من التهميش وانعدام التنمية، وتفجرت بفعل غياب آليات فعالة للمصالحة وإدارة التنوع.

 

الأحداث التي شهدتها السويداء في ذلك الصيف لم تكن مجرد خلاف محلي على موارد أو ثأر عشائري، بل كانت إنذاراً جديداً بأنّ النسيج السوري هش للغاية، وأنّ أي فراغ أمني أو تراجع للدولة يفتح الباب أمام تفكك اجتماعي يصعب السيطرة عليه. وعندما تصاعد العنف وأدى إلى سقوط قتلى وجرحى، ونزوح عائلات من قراها، بدا أن الأمور في طريقها إلى الانزلاق نحو مواجهة مفتوحة قد تتجاوز حدود المحافظة إلى الجوار الأردني وربما أبعد، وهنا برزت الحاجة إلى تدخل خارجي يوفّر حداً أدنى من الضمانات، ويضع الإطار الأولي لوقف النزيف ومنع تحول الأزمة إلى فتيل إقليمي.

 

 

ماهية الاتفاق

في منتصف أيلول/ سبتمبر 2025 وبعد أسابيع من التوترات والوساطات، أُعلن في عمّان عن التوصل إلى ما سُمّي بـ”اتفاقية السويداء” أو “خارطة الطريق”، برعاية أردنية وبتنسيق مع الولايات المتحدة، وبموافقة الحكومة السورية، الاتفاق لم يأتِ كهدنة تقليدية لوقف إطلاق النار، بل صيغ على هيئة مسار متعدد المراحل يعالج جذور الأزمة، بدءاً من المحاسبة على الانتهاكات، مروراً بعودة النازحين وإعادة الإعمار، وصولاً إلى تأسيس شكل من أشكال المصالحة الداخلية.

 

النص تحدّث عن ضرورة محاسبة كلّ من تورط في الاعتداء على المدنيين، وهو بند يُقرأ على أنّه محاولة لتجاوز الانطباع السائد لدى السكان بأنّ الدولة تتساهل مع من يحمل السلاح على حساب من يفقد بيته أو حياته، كما تضمّن الاتفاق التزاماً بتأمين المساعدات الإنسانية بشكل مستمر، في إشارة إلى أنّ معاناة المدنيين لم تعد تُستخدم ورقة ضغط في المفاوضات، بل غدت أولوية لا بد من حمايتها، وبالتوازي نصت الخارطة على تعويض المتضررين، وإعادة ترميم القرى والمنازل التي لحقت بها أضرار، الأمر الذي يمنح الأهالي حداً أدنى من الأمل في أنّ الدولة لا تكتفي بالشعارات بل تقدّم التزامات ملموسة.

 

الأبعاد الخدمية لم تغب عن الاتفاق، إذ تعهدت الحكومة بإعادة تأمين الكهرباء والمياه والخدمات الأساسية التي تعطلت خلال المواجهات، لكن البند الأهم كان ذلك الذي نص على نشر قوات محلية تابعة لوزارة الداخلية لتأمين الطرق وحماية المجتمعات، وهو إجراء يعكس إدراكاً بأن الحل لا يكمن في إرسال قوات مركزية من خارج المحافظة، بل في إشراك أبناء السويداء أنفسهم في حفظ أمن منطقتهم،  كذلك حمل الاتفاق وعوداً بكشف مصير المفقودين والمخطوفين، وهي قضية حساسة جداً في مجتمع يعيش منذ سنوات في ظل غياب اليقين والعدالة، وأخيراً أكد النص على إطلاق مسار مصالحة شامل يضم مختلف المكونات، بما يفتح الباب أمام معالجة الانقسامات الاجتماعية العميقة التي غذّت العنف.

 

 

النتائج المباشرة والآفاق المستقبلية

لم يتأخر أثر الاتفاق في الظهور، فمع الساعات الأولى للإعلان عنه تراجع التوتر على الأرض، وانخفض منسوب المواجهات المسلحة، مشهد توقف الرصاص وعودة بعض العائلات إلى منازلها كان كافياً ليمنح السكان شعوراً بأن ثمة نافذة أمل، حتى لو بقيت ضيقة كما أن وصول قوافل مساعدات إنسانية بشكل منتظم ساهم في تهدئة الغضب الشعبي، بعد أن كان الناس يشعرون بأنهم متروكون لمصيرهم.

 

على المدى المتوسط، يبدو أن الاتفاق يسعى إلى أكثر من مجرد هدنة؛ إنه محاولة لإعادة بناء العلاقة بين المركز والمحافظة على قاعدة جديدة، إشراك القوات المحلية في الأمن يُعيد الاعتبار لأبناء السويداء، ويمنحهم إحساساً بأنهم ليسوا مجرد طرف مراقَب، بل شركاء في صناعة الاستقرار. كذلك فإن بند المحاسبة يحمل رسالة بأن العدالة ليست حكراً على طرف واحد، وأن الاعتداء على المدنيين لم يعد أمراً يمكن تجاوزه. إذا نُفذت هذه البنود بجدية وشفافية، فقد يتحول الاتفاق إلى نقطة انعطاف في علاقة السويداء بالدولة السورية.

 

لكن التحديات جسيمة،  فالتجارب السابقة مع اتفاقيات “المصالحة” في مناطق أخرى، مثل درعا والغوطة، أثبتت أن الوعود قد تبقى حبراً على ورق إن لم ترافقها آليات تنفيذ واضحة، فالسكان في السويداء يراقبون عن كثب: هل ستصل التعويضات فعلاً؟ هل ستعود الخدمات بسرعة؟ هل ستتم محاسبة المعتدين مهما كانت انتماءاتهم؟ هذه الأسئلة ستحدد ما إذا كان الاتفاق سيفتح باباً لثقة جديدة، أم سيُضاف إلى قائمة طويلة من الخيبات.

 

 

البعد الإقليمي والدولي

اتفاقية السويداء لا يمكن قراءتها بمعزل عن السياق الإقليمي، فقد أدى الأردن، دور الوسيط، الذي لا يخفي قلقه من أن أي انفجار جديد في الجنوب السوري قد يهدد حدوده، ويخلق موجات لجوء إضافية، أو يفتح ثغرات أمام تهريب السلاح والمخدرات، من هنا فإن عمّان رأت في الاتفاق ضمانة لأمنها القومي بقدر ما هو معالجة لأزمة داخلية سورية.

 

أما الولايات المتحدة، فوجودها في رعاية الاتفاق يعكس رغبتها في الحفاظ على نفوذها في الملف السوري، خصوصاً في المناطق الجنوبية التي تُعتبر حساسة لإسرائيل أيضاً،فترى واشنطن  في الاستقرار في السويداء عاملاً ضرورياً لمنع تمدد قوى أخرى، سواء كانت إيرانية أو فصائلية غير منضبطة، ومن هذه الزاوية يمكن القول إن الاتفاق ليس مجرد تسوية محلية، بل هو جزء من إعادة رسم التوازنات الإقليمية في الجنوب السوري.

 

الدولة السورية بدورها حاولت من خلال هذه الخارطة أن تظهر بمظهر الشريك المسؤول الذي لا يفرّط في السيادة. ورغم قبولها بالوساطة الأردنية والتنسيق مع الولايات المتحدة، إلا أنها أكدت مراراً أن أي حل سيكون تحت سقف وحدة الأراضي السورية،  تصريحات مسؤولين في دمشق شددت على أنّ السيادة خط أحمر، وأنّ التعاون الإقليمي لا يعني تنازلاً عن القرار الوطني، لكن الواقع يطرح سؤالاً صعباً: هل تستطيع الدولة أن تُنفذ الاتفاق بمفردها، أم أنها ستبقى محتاجة إلى دعم وضغوط خارجية لضمان تنفيذه؟

 

 

التأثير على سوريا ككل

اتفاقية السويداء ليست مجرد وثيقة تخص محافظة بعينها، بل هي اختبار لمدى قدرة سوريا على استعادة وحدتها بعد أكثر من عقد من التفكك والحروب الداخلية، إن نجحت الدولة في تحويل هذه الخارطة إلى واقع ملموس، فقد يشكّل ذلك سابقة يمكن البناء عليها في مناطق أخرى عانت من الصراع، ويمنح الحكومة فرصة لإعادة صياغة علاقتها مع مواطنيها على أسس العدالة والمساواة.

 

لكن الخطر يكمن في الفشل. إن بقيت البنود معلّقة أو نُفذت جزئياً، فإن ذلك سيعزّز قناعة السكان بأنّ الدولة عاجزة أو غير جادة، ما قد يدفعهم إلى البحث عن حلول بديلة، ربما عبر تحالفات محلية أو حتى انفتاح على قوى خارجية،عندها لن يكون التهديد محصوراً في السويداء وحدها، بل قد يمتد إلى عموم الجنوب السوري، وربما إلى النسيج الوطني برمته.

 

ختاماً، إنّ اتفاقية السويداء تمثل لحظة فارقة في مسار الأزمة السورية. فهي من جهة تقدم فرصة نادرة لمعالجة صراع محلي بطريقة شاملة، تتضمن العدالة والمصالحة والخدمات والتنمية. ومن جهة أخرى، تضع الدولة أمام امتحان حقيقي: هل تستطيع أن تُترجم وعودها إلى أفعال، وأن تستعيد ثقة مجتمع لطالما شعر بالتهميش؟

 

إنّ مصير هذه الاتفاقية سيحدد الكثير في مستقبل سوريا، ليس فقط على مستوى السويداء، بل على مستوى علاقة الدولة بمواطنيها، وقدرتها على الحفاظ على سيادتها في مواجهة التدخلات الإقليمية والدولية. النجاح سيعني بداية مسار جديد نحو الاستقرار وإعادة بناء الثقة الوطنية، أما الفشل فسيعيد إنتاج الحلقة ذاتها من الانقسام والعنف والتفكك. وفي بلد أنهكته الحروب والوعود المؤجلة، يبقى الأمل معلّقاً على أن تكون هذه المرة مختلفة، وأن يجد السوريون في الاتفاقية بذرة سلام حقيقي لا ورقة سياسية عابرة.

شارك

مقالات ذات صلة