سياسة
تتصدّر العلاقات السورية الروسية واجهة النقاش السياسي في المرحلة الراهنة، لا بسبب التاريخ الطويل الذي يربط البلدين منذ الحقبة السوفييتية فقط، وإنما أيضاً بفعل التحولات التي أفرزتها سنوات الحرب السورية وما بعدها، فمنذ التدخل العسكري الروسي عام 2015، ارتبط بقاء النظام السوري بشكلٍ وثيق بالدعم القادم من موسكو، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. لكنّ هذه المعادلة لا تبدو اليوم على حالها، إذ برزت في الآونة الأخيرة مؤشرات على رغبة دمشق في إعادة صياغة العلاقة مع روسيا على أسس جديدة.
مقابلة الرئيس السوري أحمد الشرع الأخيرة على قناة الإخبارية السورية جاءت كاشفة عن هذه الرغبة، فقد أكد أنّ سوريا “تقيم علاقة قوية مع روسيا، لكنها قائمة على استقلالية القرار الوطني”، مشدداً على أنّ هذه العلاقة ليست تفويضاً مفتوحاً، وإنما شراكة يُفترض أن تراعي سيادة دمشق ومصالحها العليا.
هذه الكلمات تطرح أسئلة عدة، هل نحن أمام تحوّل تدريجي في شكل العلاقة بين الطرفين، وهل يمكن لسوريا أن تحافظ على تحالفها مع موسكو وفي الوقت نفسه تنفتح على أطراف إقليمية ودولية أخرى دون أن تفقد توازنها السياسي؟
لطالما شكّلت العلاقة بين موسكو ودمشق أحد أكثر التحالفات ثباتاً في الشرق الأوسط، وإن كانت طبيعتها قد تغيّرت عبر العقود بما يتناسب مع التحولات الدولية والإقليمية، فمنذ سبعينيات القرن الماضي، ارتبطت سوريا بالاتحاد السوفييتي باتفاقيات عسكرية واقتصادية جعلتها من أبرز حلفائه في المنطقة، وقد أتاح اتفاق عام 1971 للاتحاد السوفييتي استخدام منشآت ميناء طرطوس كقاعدة إمداد وصيانة، ما وفّر له موطئ قدم استراتيجي في البحر المتوسط في أوج الحرب الباردة.
لكن انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 ألقى بظلاله على هذا التحالف؛ فروسيا ما بعد يلتسين بدت منشغلة بأزماتها الداخلية، فيما وجدت دمشق نفسها أكثر عزلة إقليمياً ودولياً. ومع ذلك، لم تُقطع الخيوط بين الطرفين، بل ظلت العلاقات قائمة على قاعدة المصالح المتبادلة، وإن كانت بحدود أضيق.
التحول المفصلي جاء في أيلول/ سبتمبر 2015، عندما قررت موسكو التدخل عسكرياً في سوريا عبر قاعدة حميميم الجوية في ريف اللاذقية، مُعلنة عودتها لاعباً مركزياً في الصراع السوري.
لم يكن هذا التدخل خطوة عسكرية فحسب، بل أعاد صياغة العلاقة جذرياً، فبدل أن تكون موسكو مجرد حليف داعم، أصبحت الضامن لبقاء الدولة السورية والنظام السياسي في وجه الانهيار. ومنذ ذلك الحين، تحوّلت العلاقة إلى شراكة وجودية، حيث ارتبطت قدرة دمشق على الاستمرار بمقدار الدعم السياسي والعسكري الروسي، فيما وجدت موسكو في سوريا منصة متقدمة لترسيخ حضورها العالمي وموازنة النفوذ الغربي.
حين يصرح الشرع بأن العلاقة مع روسيا قائمة على الاستقلالية، فإنه لا يكتفي بطرح توصيف سياسي بل يحدد مبدأ ناظماً للمرحلة المقبلة، فالتجربة التاريخية للدول الصغيرة مع القوى الكبرى غالباً ما تنتهي بتحول التحالف إلى نوع من التبعية، سواء في القرار السياسي أو في البنية الاقتصادية، وسوريا، التي دفعت ثمناً باهظاً خلال العقد الماضي، تبدو حريصة على ألا تقع في هذا الفخ.
تحمل هذه الرسالة بُعدين أساسيين، الأول داخلي، إذ يوجّه خطاب طمأنة للرأي العام السوري الذي يخشى من أن تتحول البلاد إلى “الوصاية غير المعلنة”، على غرار ما جرى مع دول أخرى في مناطق النفوذ السوفييتي سابقاً. والثاني خارجي، يستهدف إرسال إشارة إلى الأطراف الإقليمية والدولية بأن دمشق ليست مرتهنة بالكامل لموسكو، وأنها ما تزال تملك حرية المبادرة في صياغة سياساتها.
لكن التحدي الحقيقي يكمن في مدى قدرة سوريا على ترجمة هذا الخطاب إلى ممارسة، فالوجود العسكري الروسي في قاعدة حميميم، والعقود الاقتصادية طويلة الأمد التي حصلت عليها الشركات الروسية، تمثل جميعها أوراق قوة بيد موسكو. ومع ذلك، يبقى تمسك دمشق بالسيادة مؤشراً على أنها تدرك ضرورة الحفاظ على هوامش استقلالية، حتى وإن كان الثمن الدخول في مساومات صعبة مع الحليف الروسي.
مع انحسار العمليات العسكرية الكبرى في سوريا، أخذ الدور الروسي يتجاوز البعد العسكري المباشر إلى محاولة تثبيت حضور طويل الأمد عبر الاقتصاد والسياسة، فبعد التدخل الحاسم عام 2015 الذي غيّر موازين القوى لصالح النظام السابق، بدأت موسكو تُبرم اتفاقيات تضمن نفوذها في مرحلة ما بعد الحرب، بما يشمل عقود تشغيل ميناء طرطوس وإدارة حقول الفوسفات في تدمر. هذه الاتفاقيات، التي أثارت جدلاً واسعاً، تعبّر عن تحول النفوذ الروسي من التدخل العسكري إلى شراكة استراتيجية تمتد إلى القطاعات الاقتصادية الحيوية.
من الناحية السياسية، سعت موسكو إلى ترسيخ نفسها كوسيط أساسي في الملف السوري، حيث أدت دوراً محورياً في مسار أستانة وتشكيل اللجنة الدستورية عام 2019، أصبح من الضروري إعادة قراءة العلاقة بين موسكو ودمشق، إذ لم تعد سوريا مجرد تابع مباشر، بل دولة جديدة تسعى للحفاظ على هامش استقلالها السياسي.
التطورات الأخيرة تُظهر هذا التوازن الجديد بوضوح، فقد استقبلت دمشق في 9 أيلول/ سبتمبر 2025 وفداً روسياً رفيع المستوى برئاسة نائب رئيس الوزراء ألكسندر نوفاك، حيث التقى وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، خلال الاجتماع، أكّد الشيباني عمق العلاقات التاريخية بين البلدين، وأهمية توجيه أي دعم أجنبي لصالح الشعب السوري وبناء الدولة الجديدة، بينما أعرب الجانب الروسي عن التزام موسكو بتعزيز التعاون في المجالات الأمنية والاقتصادية وإعادة الإعمار، مؤكداً استمرارية الشراكة الاستراتيجية مع سوريا.
في هذا السياق، تبرز معضلة دمشق في الاستفادة من الدعم الروسي دون الانزلاق إلى التبعية الكاملة. فتصريحات أحمد الشرع الأخيرة حول رفض “المساعدات المشروطة سياسياً” تعكس إدراك سوريا الجديدة لأهمية الحفاظ على سيادتها وقدرتها على اتخاذ القرار الوطني، فالرهان الآن على بناء شراكة استراتيجية متوازنة تسمح لموسكو بالمساهمة في إعادة الإعمار وتقديم الدعم الاقتصادي، مع تمكين دمشق من إدارة مواردها ومستقبلها السياسي بعيداً عن أي هيمنة خارجية.
كل ما سبق يقود إلى سؤال مركزي، كيف ستبدو العلاقة السورية الروسية في السنوات القادمة؟ الشرع يقدم تصوراً يقوم على الشراكة الاستراتيجية لا التبعية، لكن هذا التصور سيخضع لاختبارات صعبة. فمصير الوجود العسكري الروسي، ومستقبل العقود الاقتصادية، وموقف موسكو من أي تسوية سياسية شاملة، كلها ملفات ستحدد شكل هذه الشراكة.
بهذا المعنى، يُظهر الدور الروسي في سوريا الجديدة حدوداً واضحة: موسكو حاضرة كحليف استراتيجي وداعم اقتصادي وسياسي، لكنها ليست قادرة على فرض كامل إرادتها، في وقت تحاول فيه دمشق، إعادة ضبط العلاقة بما يضمن لها نفوذاً داخلياً وحركة سياسية مستقلة في مرحلة ما بعد سقوط النظام السابق.
في حال نجحت دمشق في فرض معادلة “شراكة بلا ارتهان”، فإن العلاقة مع روسيا ستتحول من علاقة فرضتها ظروف الحرب إلى علاقة أكثر توازناً تراعي مصالح الطرفين. أما إذا فشلت في ذلك، فقد تجد نفسها أمام نسخة جديدة من علاقة الهيمنة التي خبرتها دول أخرى في فترات سابقة.
العامل الدولي يؤدي دوراً حاسماً في مستقبل سوريا الجديدة. بعد سقوط النظام السابق في كانون الأول/ ديسمبر 2024، بدأت دمشق إعادة بناء علاقاتها مع المجتمع الدولي، خصوصاً مع بعض الدول العربية والغربية التي بدأت فتح قنوات الحوار رسمياً.
في الوقت نفسه، تواصل روسيا دورها كشريك استراتيجي رئيسي، مع استمرار دعمها العسكري والسياسي والاقتصادي، بما في ذلك مشاريع إعادة الإعمار واتفاقيات ميناء طرطوس وحقول الفوسفات في تدمر.
لذلك، المرحلة المقبلة تبدو مرهونة بتوازن المصالح بين روسيا وسوريا الجديدة، مع الانفتاح التدريجي على المجتمع الدولي، وهو ما يحدد طبيعة الشراكة السورية الروسية ومستقبل القرار الوطني.
تكشف مقابلة أحمد الشرع عن إدراك سوري متزايد لحساسية العلاقة مع روسيا في المرحلة الراهنة، فدمشق لا تستطيع الاستغناء عن موسكو، لكنها في الوقت نفسه تدرك أنّ الارتهان الكامل لها قد يقيد مستقبلها السياسي والاقتصادي، من هنا جاءت الدعوة إلى شراكة قائمة على الاستقلالية، وهي معادلة صعبة لكنها ضرورية إذا أرادت سوريا أن تعيد بناء نفسها كلاعب مستقل في الإقليم.
إنّ نجاح هذه المعادلة سيعتمد على قدرة دمشق على تنويع شركائها، وعلى استعداد موسكو للتعامل مع سوريا كشريك لا كتابع، وإذا تحقق ذلك، فقد نشهد تحوّلاً في العلاقات السورية الروسية من تحالف ظرفي فرضته الحرب، إلى شراكة استراتيجية قادرة على الصمود في زمن السلم. أما الفشل في هذا المسعى، فسيعني بقاء سوريا عالقة في دائرة النفوذ الروسي، مع ما يحمله ذلك من قيود على سيادتها ومستقبلها.