آراء
مع اختتام مؤتمر الدول الإسلامية في قطر، انقسمت الآراء حول البيان الختامي؛ ففريق اعتبره متقدمًا حين وصف إسرائيل بأنّها دولة خارجة عن القانون ودعا إلى مراجعة العلاقات معها ومع القوى الداعمة لها، فيما رآه آخرون بيانًا باهتًا لا يرقى لمستوى التحديات. وبين هذا وذاك، يظلّ السؤال الأهم مطروحًا بإلحاح: ماذا عن السيادة العربية، وكيف يمكن استعادتها في زمن التباسات الداخل وضغوط الخارج؟
فحين نتأمل نشأة الدولة الإسلامية القديمة، ندرك أنّ مفهوم “السيادة” وإن لم يكن دارجاً ومتداولاً في تلك الأزمان، إلا حقيقته كانت واضحة و تعبر عن ممارسات حيّة ارتبطت بالشرع والحكم والعقد الاجتماعي والقبول الشعبيّ والدوليّ، والسيادة في المفهوم المعاصر هي وجود سلطة حقيقيّة للدولة في إدارة شؤونها الداخلية والخارجية بحريّة كاملة، بما يعكس استقلالها القانوني والسياسي، وتتجلّى في سيطرة النظام أو الدولة الداخلية على الإقليم والشعب، واستقلالها الخارجي عن التدخلات الخارجية، ووجود اعتراف دولي بها، ويوجد تحكم اقتصادي ذاتي مستقل بالموارد والثروات، وعندما نغوص في بذرة الدولة الإسلامية القديمة نجدها مارست السيادة فهناك سلطة مسموعة تحكم بالقانون الإلهي ولا تتمثل لإملاءات الخارج، ففي المدينة المنورة، صاغ النبي ﷺ “وثيقة المدينة”، التي لم تكن مجرد اتفاقية بين مكونات المجتمع المختلفة، بل كانت دستورًا أوليًّا أرسى قواعد “السيادة” على أسس إلهية شرعيّة، وأخلاقيّة واجتماعيّة، ولقد وضعت الوثيقة السيادة للرب، والشرع ميزانًا للحكم، لكنها لم تُلغِ دور الأمة أي الشعب، بل جعلته شريكًا أصيلًا في صناعة القرار السياسي وضمان لتطبيق العدل، ومن هنا نجد أنّ السيادة تجسدت في الجمع بين السلطة الشرعية ورضا الجماعة، بما أعطى الكيان السياسيّ القوة في إصدار القوانين التي يتبناها دون إملاءات من أطراف المصالح أو من الخارج كالروم و الفرس، بل السيادة للقانون الإلهي ثمّ رضا الشعب المحكوم، وحمت الدولة الوليدة من التفكك وأكسبتها شرعية داخلية وخارجية.
وفي زمن الخلفاء الراشدين، اتخذت السيادة بعدًا مؤسسيًّا أعمق. فقد عُرف عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أنّهم لم يحكموا بسلطانٍ فردي، بل مارسوا السلطة في إطارٍ من الشورى والرقابة والمساءلة، فكانت البيعة عقدًا سياسيًّا واجتماعيًّا، يمنح الحاكم شرعية مشروطة بمدى التزامه بالعدل وحماية مصالح الأمة، وحتى في الدولة الأمويّة والعباسيّة، رغم تعاظم السلطة المركزية، ظل مفهوم السيادة مرهونًا بالشرعية الدينيّة وبقدرة الدولة على حماية الأمة وصيانة حدودها و سيادتها من تدخلات الأمم الأخرى، فلم يكن الحاكم يُنظر إليه كصاحب سلطان مطلق بل كأمين على قيم ومصالح الأمة العليا و أهمها سيادة القانون واستقلال عن الخارج.
ولكن في القرن العشرين وما بعده، وبعد أفول مفهوم الخلافة الجامعة بالرغم من كل الملاحظات عليها، وجدت الدول العربية نفسها في واقع جديد باتت فيه السيادة منقوصة والقرار الاستراتيجي مرتهنًا للقوى العظمى الاستعمارية، فلم تعد السلطة في كثير من هذه الدول تعبيرًا عن عقد اجتماعي جامع يربط الأمة بحكامها، بل تحوّلت إلى منظوماتٍ مغلقة تفتقر إلى ميثاقٍ واضح يحدد العلاقة بين الشعب والدول، ونتيجة لذلك مع الأسف، عاشت الشعوب العربية حالة من التخبط والضياع، بين “وهم السيادة وشعارات الاستقلال” من جهة، و”الارتهان الفعلي للهيمنة الخارجية” من جهة أخرى، فبدا مسار السلطة غامضًا وملتبسًا، أشبه بسرابٍ سياسيّ يبدّد طموحات الأمة أكثر مما يرسم لها أفقًا واضحًا للمستقبل.
إنّ ضياع السيادة في عالمنا العربي ليس قدرًا محتومًا لا قرار لنا فيه، بل هو نتاج فجوة عميقة حصلت بين الأنظمة وشعوبها، ولا سبيل لتجاوزها إلا بمراجعة الأنظمة العربية بشكل جاد لمفهوم السيادة المفقودة والبحث عن سبل تحقيقها، والمطلوب الآن بناء عقد اجتماعي جديد يجعل الشعوب العربية شريكًا في صناعة القرار ومساندة للأنظمة، ويعيد التوازن الذي عرفه المسلمون الأوائل، وعلى السلطات أن تدرك أنّ تحالفها مع شعوبها هو المخرج الحقيقيّ من قبضة العدو الخارجيّ وهيمنته، وأنّ السيادة لا تُمنح بل تُبنى من الداخل.