مدونات

الضفة الغربية على حافة الهاوية: استراتيجية لتصفية الوجود الفلسطيني

سبتمبر 17, 2025

الضفة الغربية على حافة الهاوية: استراتيجية لتصفية الوجود الفلسطيني

منذ مطلع عام 2025، تشهد الضفة الغربية تصعيدًا غير مسبوق في السياسات الإسرائيلية جعلها في قلب أزمة إنسانيّة وسياسيّة متشابكة تهدّد الوجود الفلسطينيّ بشكل مباشر. لم تعد الانتهاكات مجرّد أحداثٍ متفرقة، بل تحوّلت إلى سياسة ممنهجة تستهدف تفريغ الأرض من سكانها الأصليين وفرض واقع استيطاني جديد يقطع الطريق أمام أيّ أفقٍ لحلٍّ سياسيّ عادل.

تتراوح هذه السياسات بين التهجير القسري، والاعتقالات الجماعية، وعنف المستوطنين المدعوم من جيش الاحتلال، والهدم الممنهج للمنازل، وفرض قيود مشددة على حرية التنقل، وهو ما يشكل تهديدًا وجوديًّا لحياة الفلسطينيين اليومية ومستقبل أيّ كيانٍ فلسطيني مستقل. وفي ظلّ هذا الواقع المأساوي، يقف المجتمع الدولي إما صامتًا أو متخاذلًا، ما يجعل الضفة الغربية ساحة اختبار حقيقية لمدى جدية الضميرين العربي والدولي. ولعل هذا الوضع يعيد إلى الواجهة تساؤلات حقيقية حول جدوى اتفاقية أوسلو الموقعة عام 1993، التي راهنت حركة فتح من خلالها على إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967.

التهجير القسري: سياسة لإفراغ الأرض.

تشير تقارير منظمات حقوقية دولية، مثل منظمة أطباء بلا حدود، إلى أنّ الفرق الطبية والميدانية تعمل وسط ظروف استثنائية، حيث تُمارس عمليات تهجير قسري على آلاف الفلسطينيين، بالتوازي مع تدمير واسع للمنازل والممتلكات وفرض قيود صارمة على الحركة. هذا الواقع يشكل تهديدًا مباشرًا لوجود المجتمعات الفلسطينيّة ويعكس استراتيجية طويلة المدى لإفراغ مناطق كاملة من سكانها.
منذ بداية عام 2025، تمّ توثيق أكثر من 1,000 هجوم نفذه المستوطنون في 230 مجتمعًا فلسطينيًّا في الضفة الغربية، ما أدى إلى نزوح العديد من العائلات وتدمير ممتلكاتهم. هذه العمليات ليست عشوائية، بل هي جزء من خطة مدروسة لإحداث تغيير ديمغرافي قسري في مناطق استراتيجية، بما يعيق أيّ! إمكانيةٍ لقيام دولة فلسطينية متصلة جغرافيًّا أو مستقلة سياسيًّا.

الاعتقالات الجماعية: أداة لقمع النشطاء وقهر المجتمع.

الاعتقالات الإسرائيلية الواسعة تمثل ركيزة أساسية في سياسة القمع. وتشير مصادر فلسطينية إلى أنّ أكثر من 19,000 فلسطيني اعتقلوا منذ اندلاع الحرب على غزة في أكتوبر 2023 وحتى منتصف 2025، وغالبية هذه الاعتقالات تتم دون محاكمات عادلة وتستهدف النشطاء السياسيين والصحفيين وأعضاء الأطر المجتمعية.
هذه الاعتقالات لا تهدد الحرية الفردية فحسب، بل تؤسس لأجواء من الخوف والترهيب داخل المجتمع الفلسطيني، وتقطع مسارات النضال المدني والسياسي. ويؤكد حقوقيون أنّ الهدف منها هو كسر إرادة الفلسطينيين وإضعاف قدرتهم على المقاومة والتنظيم الشعبي.

عنف المستوطنين ودعم الجيش: تكتيك لإرغام الفلسطينيين على الرحيل.

تؤكد تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوقيّة مستقلة وجود تصاعد خطير في هجمات المستوطنين على الفلسطينيين، تشمل تدمير المحاصيل الزراعية، إحراق المنازل، مهاجمة الحظائر، وقطع إمدادات المياه والكهرباء. وغالبًا ما تتم هذه الهجمات تحت حماية أو تواطؤ القوات الإسرائيلية، ما يجعلها جزءًا من استراتيجية متكاملة للضغط على الفلسطينيين وإجبارهم على ترك أراضيهم.
في قرى قريبة من الخليل، أفاد السكان بفقدانهم مصادر المياه الأساسية، ما أدى إلى تعطيل الزراعة وتفاقم معاناتهم اليومية، خصوصًا في فصل الصيف حيث ترتفع درجات الحرارة وتزداد الحاجة إلى المياه.

الاستيطان: تغيير ديمغرافي بالقوة.

تواصل إسرائيل تنفيذ مشاريع استيطانية واسعة في الضفة الغربية المحتلة، مستفيدة من الدعم السياسي والمالي الحكومي. فقد أعلن وزير المالية الإسرائيلي مؤخرًا عن خطط لبناء أكثر من 3,000 وحدة سكنية جديدة في المستوطنات القائمة، مع التركيز على المناطق الاستراتيجية قرب القدس الشرقية والمناطق الفاصلة بين الضفة وأراضي 1948.
تعد الأمم المتحدة وعدد من المنظمات الحقوقية هذه المشاريع انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي، وخصوصًا اتفاقيات جنيف الرابعة التي تحظر على القوة المحتلة نقل سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها. ويصنف القانون الدولي هذه الإجراءات كجرائم حرب لما لها من أثرٍ مباشر على حياة الفلسطينيين اليومية، إذ تؤدي إلى مصادرة أراضيهم وتهجيرهم قسرًا وتقييد حركتهم داخل الضفة، فضلًا عن التأثير المدمر على مصادر رزقهم، خصوصًا الزراعة والمياه.
على المستوى الاجتماعي، يفاقم الاستيطان التوتر بين الفلسطينيين والمستوطنين، حيث تتكرر أعمال العنف والمواجهات ويعيش الفلسطينيون تحت تهديد دائم لحياتهم وممتلكاتهم. أما اقتصاديًّا، فإنّ استحواذ المستوطنات على مساحات واسعة يعرقل التنمية المحلية ويرفع معدلات الفقر والبطالة، بينما تحظى المستوطنات بدعم حكومي واسع يشمل البنية التحتية والتعليم والخدمات.
هذه السياسات ليست جديدة، لكنها شهدت في السنوات الأخيرة تسريعًا غير مسبوق في البناء والتوسع، ما يعزّز واقعًا قائمًا على تقسيم الضفة إلى كانتونات معزولة ويقلّص المساحات المتاحة للفلسطينيين، الأمر الذي يقوّض إمكانية إقامة دولة فلسطينيّة مستقلة على حدود 1967.

البنية التحتية وأزمة الموارد.

إلى جانب التهجير والاستيطان، تواجه الضفة الغربية أزمة حادة في البنية التحتية والخدمات الأساسية. فالهدم الممنهج للمنازل وتدمير المدارس والمراكز الصحية وإغلاق طرق النقل يعقد الوصول إلى الخدمات الحيوية ويزيد معاناة الفلسطينيين اليومية، كما يعرقل أي تنمية اقتصاديّة أو مجتمعيّة.
وتبرز أزمة المياه كأحد أخطر الجوانب الإنسانيّة، إذ تسيطر المستوطنات على المصادر الرئيسيّة للمياه، بما في ذلك الآبار والسدود، ما يحرم آلاف العائلات الفلسطينية من مياه الشرب والزراعة. ويضطر كثيرون لشراء المياه بأسعارٍ مرتفعة أو الاعتماد على مصادر غير آمنة، ما يفاقم الفقر ويؤثر على الصحة العامة، خاصة بين الأطفال والنساء وكبار السن.
كما تعاني الضفة من أزماتٍ في الكهرباء والاتصالات وشبكات الصرف الصحي، حيث تفرض قيود على إنشاء محطات توليد الطاقة أو توسيع الشبكات، بينما تتمتع المستوطنات بخدمات حديثة ومستقرة، ما يخلق فجوة تنموية هائلة ويزيد من هشاشة المجتمعات المحلية أمام الضغوط اليومية للاستيطان والاحتلال.

التأثير النفسي والاجتماعي.

يؤدي التهجير القسري والاعتقالات إلى اضطرابات نفسية حادة، خصوصًا لدى الأطفال والنساء. فقد أظهرت تقارير ميدانيّة أنّ الأطفال الذين يشهدون أو يتعرضون للاعتقالات يعانون من صدمات نفسيّة تتجلّى في القلق والاكتئاب واضطرابات النمو الاجتماعي والعاطفي.
كما يسبب العيش تحت تهديد مستمر من الهدم والاعتقال والقتل ضغطًا نفسيًّا مزمنًا، ما يرفع معدلات الأمراض المرتبطة بالتوتر، مثل ارتفاع ضغط الدم واضطرابات النوم، ويزيد معدلات الإصابة بالأمراض النفسيّة والجسديّة.
ويؤدي تفكك الأسر الناتج عن التهجير والاعتقالات إلى إضعاف الروابط الاجتماعيّة وزيادة الشعور بالعزلة، وهو ما يرفع معدلات الاكتئاب والقلق، خاصة بين الشباب والنساء المعيلات.

تهديد الدولة الفلسطينية المستقبلية.

تؤدي السياسات الاستيطانية إلى تقطيع أوصال الأراضي الفلسطينية وعزلها، ما يجعل من الصعب إقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافيًّا. ويضاعف التهجير القسري هذا الخطر، إذ تشير تقارير إلى أنّ أكثر من 60 تجمعًا فلسطينيًّا تعرض للتهجير خلال العامين والنصف الماضيين، في إطار سياسة واضحة لتقليص الوجود الفلسطيني.
إضافة إلى ذلك، تواصل إسرائيل السيطرة على الموارد الطبيعية مثل المياه والأراضي الزراعية، ما يضعف الاقتصاد الفلسطيني ويجعل بناء دولة ذات سيادة أمرًا بالغ الصعوبة.

الصمت الدولي والخذلان العربي: ضوء أخضر للاحتلال.

رغم صدور تقارير أممية متكررة توثق الانتهاكات الإسرائيلية، يبقى المجتمع الدولي إما صامتًا أو متباطئًا في التحرك، بينما تستمر بعض الدول الكبرى في تقديم دعم سياسيّ واقتصاديّ لإسرائيل. هذا الصمت يوفر غطاءً يسمح للاحتلال بمواصلة سياساته دون خوف من المساءلة أو العقوبات، ويزيد من إحباط الفلسطينيين على المستويين النفسيّ والاجتماعيّ.
أمّا عربيًّا، فيبرز الخذلان بوضوح، إذ لم تتخذ غالبية الدول العربية خطوات عملية لوقف التوسع الاستيطانيّ أو التهجير القسريّ، بل إن بعضها وقع اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل، ما يمنح الاحتلال شرعيّة ضمنيّة ويضعف الموقف الفلسطيني في الساحة الدوليّة. هذا الجمع بين الصمت الدولي والتقاعس العربي يضاعف شعور الفلسطينيين بالعزلة والإحباط، ويجعل أيّ محاولةٍ لإقامة دولة فلسطينيّة مستقلة أكثر هشاشة وصعوبة.

خاتمة: اختبار للضمير العالمي.

الضفة الغربية اليوم ليست مجرّد مساحة محتلّة، بل ساحة اختبار لضمير العالم. كلّ يومٍ يمر دون تحرك دولي حقيقي يزيد من معاناة الفلسطينيين ويعمق واقعًا مستحيلًا للأجيال القادمة.
إنّ حماية المدنيين والضغط على الاحتلال لوقف الانتهاكات وضمان حقوق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم لم تعد مجرّد قضايا إنسانية، بل هي واجب أخلاقي وسياسي عاجل. فالمستقبل لا يمكن أن يُبنى على صمت المتخاذلين، ولا على دماء الأبرياء التي تُهدر كلّ يوم.

شارك

مقالات ذات صلة