فكر

العلاقة السامة بين السوري ووطنه

سبتمبر 17, 2025

العلاقة السامة بين السوري ووطنه

الحبّ، في جوهره، قفزة إيمان، اندفاع نحو الآخر رغم اللاعقلانية. لكن حين ينقلب هذا الحب إلى علاقةٍ غير متكافئة، ينقلب من فعلٍ نبيل إلى عبءٍ وجوديّ خانق. هكذا تبدو علاقة السوري ببلده، إحدى أكثر العلاقات تعقيداً وتشظياً، حيث يتشابك فيها العاطفي مع الواقعي، ويتداخل الأخلاقي مع النفعي، وتتقاطع الذاكرة مع الحاضر. علاقة لا تشبه حب الوطن بوصفه قيمة مثالية كما صورته الكتب والروايات وشاشات السينما، بل تماثل علاقة سامة Toxic من طرف واحد، حيث يضحي أحد الطرفين بكل شيء، بينما لا يقدم الآخر شئياً سوى الألم.

 

فالسوري لا يحب وطنه لأنّه يعيش فيه بأمانٍ أو يُحسّ فيه بالكرامة، بل يحبه كما يحبّ الابن أباً غائباً أو ميتاً، أو حتى جلاداً. هو حبّ مؤسَّس على الحرمان، وعلى الذاكرة أكثر مما هو على الواقع. يتغنّى بجماله وهو يشهد على دمار مدنه، ويفتخر بانتمائه حتى وهو يُهان على أعتابه. 

هذا الحبّ غير المشروط ليس تعبيراً عن جهل أو استسلام، بل نتيجة تراكمات من الذاكرة الجماعية، من المدرسة التي لقّنته النشيد كل صباح، من حكايات الآباء، وصوت الأغاني الشعبية في حافلات النقل الداخلي ذات المقاعد الخشبية القاسية، وباحات المدارس المغبرة، وصوت ترتيل المساجد مساء الخميس، وازدحام وقفة العيد، ونتائج الثانوية وانتظارها بقلبٍ مرتجف كما هو حال الإنترنت الأرضي، فكل شيء في الوطن كان قديماً باهتاً. 

لتغير الثورة بعدها مفهوم هذا الحب، ففي بلد كسوريا، تماهت فيه السلطة بمفهوم الوطن، وكان الخوف هو اللغة الوحيدة في العلاقة. ثار السوري في لحظة حلم، فكان ردّ الوطن الرسمي، ناراً وقمعاً. حتى بعد سقوط نظام “الأبد”، لم تُشفَ العلاقة بعد. ما تزال محكومة بالخوف من الفقد، ذلك الفقد الغريب، إذ يخاف السوري أن يخسر ما لم يكن له يوماً. وكلما طفت على السطح أخبار تهز البلاد، سهرت له العيون المرتجفة، تبكي على وطنٍ لم يحتضنها، وتخاف على وطنٍ لم يعترف بها.

 

فلسفياً، يمكن فهم هذه العلاقة من خلال منظور “الاغتراب”، فالسوري مغترب عن وطنه حتى وهو فيه، لا يشعر بالملكية، ولا بالأمان، ولا بالانتماء. يغدو الوطن شئياً خارجياً يراقبه، يعاقبه، ويطالبه بالولاء له رغم كل شيء. هذه العلاقة ليست قصة رومانسية، بل تراجيديا كاملة الأركان، فيها بطل مأساوي اسمه “السوري”، يؤمن بالحب والحق والجمال، يعيش في مسرح تنهار جدرانه فوق رأسه كل يوم، ليعود كل يوم إلى المقعد ذاته، آملاً أن تتغيّر النهاية.

 

هذا الحبّ السوريّ، رغم طهره الظاهري، مسمومٌ بالخذلان، هو صلاة بلا وضوء ونافذة دون جدار. إلا أنّ هذا الحبّ المازوشي إن لم يعالج فلسفياً وسياسياً لا عاطفياً فقط، فإنه يُهدّد بتحويل أجيال كاملة إلى لاجئين أبديين، لا يملكون تعريفاً واضحاً لماهية الوطن.

 

ويبقى السؤال المعلّق في هواء اليوم الثقيل: هل ما زال هذا الوطن جديراً بحبّنا؟ أم أن الوقت قد حان لتفكيك هذا الحبّ، مساءلته، ونقده بعمق، ثم إعادة تركيبه من جديد، لا على أسس القداسة، بل على أسس الكرامة؟ وطن نكون فيه رعايا أحراراً لا أبناءً طائعين؛ نُعامَل فيه كمواطنين لا كورثة لصكوك الطاعة.

 

سؤالنا اليوم، لا ينادي بالجفاء، بل يدعو إلى التحرر من العاطفة الجبرية، وإعادة النظر في تلك العلاقة التي تأسست على الصبر والخوف والتقديس. تماماً كما دعا نيتشه إلى “موت الإله” كي يتحرر الإنسان من الميتافيزيقيا التي كبلته، ربما علينا نحن أن نعلن موت الوطن المتخيّل، كي نولد من جديد في وطن حقيقي. التفكيك الفلسفي لهذا الحب لا يعني الكفر بالوطن، بل هو الفعل الأكثر وطنية، لأنّه يستبدل الأسطورة بالحقيقة، والانفعال بالعقل، والاستلاب بالوعي، وينتقل بنا من وطن بني داخلنا على خطاب “الأبوة” إلى وطنٍ نتعاقد معه، كأفرادٍ أحرار يتشاركون الحقوق والواجبات، لا نُرغم على حبه، بل نستحقه ونستحق أن يحبنا.

 

لعل البداية تكون من الاعتراف: لقد أحببنا وطناً لا يعرف كيف يحبّنا!

شارك

مقالات ذات صلة