آراء

كيف فقدت مصر نفوذها؟ وما السبب؟

سبتمبر 16, 2025

كيف فقدت مصر نفوذها؟ وما السبب؟

ياعيب الشوم.. القاهرة! التي لم تكن يومًا وفي كل عصر وكيفما تناوب عليها من صنوف الغزو والاحتلال، القاهرة التي لم تكن يومًا مدينة عابرة في السياسة العربيّة، مصر التي في خاطر الست وفمها تدمع في يومٍ واحد على حصنين كانا لها بلا منازع – دون مد اليد حتى لمنع الأذى؟ أي عصر هذا!

لعقودٍ، كانت مصر مركز الثقل وصاحبة الكلمة الأولى في ملفات الأمن القومي العربيّ والأفريقيّ؛ صحيح أنّ دولة يوليو لم تخترع القوميّة العربيّة وإنّما ابتُعثت الروح فيها بين عشرات حركات التحرر الوطني وكان عبد الناصر حقبة مهمة في تاريخ مساندة هذه الحركات سيما في أفريقيا والدول العربيّة، لكن ذلك كله حين انْدكّت السماء على أرض مصر في جاثوم حزيران ٦٧. وصحيح دولة يوليو استثمرت في أعماق مصر الحيوية في أفريقيا وفي حركة عدم الانحياز. لكن ناصر مات، قضى!، غاب ناصر وتحطّمت القوميّة إلا من متشبثين بما دونها الهلاك فراح معه الشغف بأفريقيا حتى بدت بعيدة صغيرة كأصدقاء لم نعد نلقاهم، أو نودعهم،

بل ولم يُكلف خلفاؤه حتى إقراءها السلام، ثم يتعجّبون أن الجار البعيد حامل الضغينة يبني سدا يخنق حلق مصر بحجب روحها.. النيل..

 من فلسطين إلى أفريقيا، ومن مياه النيل إلى مياه المتوسط. كانت؛ القاهرة الفتية السياسية المليئة بالحماس والأحلام و ”المجدعة“ والنخوة والقيادة (أقول القيادة لا الزعامة) كانت ترسُم خرائط الحرب والسلام، وتستضيف الخصوم والأصدقاء، وتدير ملفات المنطقة وغير المنطقة بعصب الدولة المركزية، بجواد الدبلوماسية المصرية الأسود؛ وهو الحصن الأخير  اليوم لمصر كما نتمناها مدنية، بعد ماطالت الجمهورية الجديدة القضاء ولن أزيد.. لكن الخميس.. وياللمفارقة الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٢٥، فرّت دمعتان على وجه مصر الحبيسة كأنّما حفر أخدودَهما محراث؛ دمعة في الدوحة والأخرى في أديس أبابا.

 الأولى حين أدركت ألا أمان لوفود لحماس خارج مصر، فما لن تستباح أرضها هي الأخرى إن حلوا بها متفاوضين؟ فليسوا آمنين أينما حلوا، أدركت مصر خطاياها بالتخلي عن دورها الراسخ في القضيّة الفسطينيّة شعبًا وإدارة ومقاومة، تارة بلي عنقها بيمين الخليجيّ المانح وتارة بيسار الأمريكيّ المُسلح. ..

والثانية حيث يمسك أبي أحمد قطّارة صغيرة يقطر بيها إكسير الحياة لمصر وهي دونه عاجزة واللوم عليها.. مصر.. فرّطت للأسف، فجرّأت عليها الصغار…

 

الدمعة الأولى: قطر وملف المقاومة الفلسطينية

هذه الدمعة ليست دمعة حسدٍ على نفوذٍ جديد، بل دمعة على ضياع دورٍ تاريخيّ. مصر التي كانت الوسيط الأول بين الفصائل الفلسطينيّة والاحتلال، والتي أدارت لعقودٍ كلّ مسارٍ تفاوضيّ تقريبًا، تجد نفسها اليوم خارج اللعبة. بيان هنا وبيان هناك وكفى الله المؤمنين القتال ودمتم.

منذ منتصف العقد الماضي، بدأت القاهرة تُفَرِّط تدريجيًّا في أوراقها. جهاز المخابرات العامة انتزع ملف الوساطة من وزارة الخارجية؛ البيانات الرسمية فقدت صلابتها وباتت مُواربة. في حرب الإبادة الأخيرة على غزّة، حين كان المدنيون يُذبحون تحت القصف، استفقنا من سباتنا في العشرية السوداء لمصر على أنّ الوسطاء الفعليين أصبحوا قطر وتركيا، بينما مصر –صاحبة الجغرافيا والمعبر والتاريخ– تكتفي بالمراقبة أو بالمشاركة الرمزية (¹)(²).

هذا التحول لم يأتِ صدفة. قطر تحركت بذكاءٍ على مدار عشر سنوات، استثمرت مليارات الدولارات في غزّة (ما بين 1.1 – 1.3 مليار دولار حتى 2023 وفق تقديرات دولية) (¹)، بنت شبكات نفوذ، وأصبحت عنوانًا لا يمكن تجاوزه لأيّ صفقة تبادل أسرى أو هدنة. في المقابل، القاهرة لم تُطوّر أدواتها، ولم تحافظ حتى على «هيبة الوسيط». والنتيجة أنّ ملفات المقاومة الفلسطينيّة، التي كانت أقرب إلى «رأسمال سياسيّ» مصري، أصبحت أوراقًا في يد آخرين (²).

إنّ خسارة مصر لهذا الملف لا تعني فقط فقدان نفوذ سياسي، بل تعني انتهاك سيادة دورٍ عربيّ مركزيّ. هي دمعة لأنّ القاهرة لم تعد الطرف الذي يُخشى غضبه أو يُسعى إلى رضاه، بل أصبحت مجرّد محطة لوجستيّة لعبور وفود؛ وبقيت ”أدخلوا مصر إن شاء الله آمنين“ لوحة معلّقة لا يقرؤها أحد في صالة مطار القاهرة، بينما القرار الفعليّ يُطبخ في الدوحة أو أنقرة.

 

دمعتان والجرح واحد

دمعتا قطر وأديس أبابا ليستا قصتين منفصلتين؛ هما وجهان لأزمة بنيوية أعمق. الأزمة هي سقوط الدولة المركزيّة التي كانت مصر، وفقدان القدرة على المبادرة، وانسحاب القوة الناعمة والخشنة معًا. الدولة التي كانت «منطقة آمنة» تحوّلت إلى كيانٍ هش، يفرط في ملفات سيادية لصالح آخرين.

الدمعة الثانية: أديس أبابا.. سد النهضة وأشياء أخرى

مشهد رئيس الوزراء الإثيوبيّ أبي أحمد محتفلًا بدموع أيضًا شتّان هي عن دموع مصر.. فهي دموع الفرح ببدء تخزين المياه في السد الإثيوبيّ، وسط ألعاب نارية وأغانٍ وطنية، كان إعلانًا رسميًّا لانتهاء مرحلة الهيمنة المصريّة على النيل.

هذا لم يحدث بين ليلةٍ وضحاها. الاتفاق ”الإطاري“ الذي وقّعته مصر في ٢٣ مارس ٢٠١٥ (Declaration of Principles) مع إثيوبيا والسودان، دون عرض على البرلمان أو نقاش عام ومجتمعي حقيقي في روح مصر وسبب بقائها وهي من دون النيل إلى زوال لا محال، منح أديس أبابا الشرعيّة الدوليّة لبناء السد والتحكم في مياه النهر (³)(⁴). الاتفاق كان سياسيًّا على مستوى الرؤساء ووزراء المياه/الخارجية، وليس معاهدة ملزمة بالمعايير الدولية، وشديد الرداءة والركاكة والإجحاف بحق مصر! حتى إنّه لم يحدد جداول زمنيّة واضحة للملء ولا تعريفًا مُلزِمًا للجفاف الممتد ولا آليات لتسوية الخلافات الفنية (³)(⁴)!

نقطة جوهريّة: الاتفاق لم يتضمن أيّ إشارة صريحة للحقوق التاريخيّة التي تتمسك بها القاهرة منذ معاهدتي ١٩٢٩ ١٩٥٩، وهو ما اعتبره خبراء مياه «تنازلًا جوهريًّا» (⁴). كما أنّ غياب أيّ آلية تنفيذ قوية سمح لإثيوبيا بالمضي قدمًا في البناء والتخزين دون التزامات واضحة.

أمّا عن مسألة اطلاع وزير الري وقتها، فالمصادر الرسميّة تنفي أو بالأحرى ”لا تؤكد“ ذلك بشكلٍ قاطع. هناك انتقادات من خبراء ووزراء ري سابقين بأنّ الملف جرى «تمريره» سياسيًّا دون إشراك كل الدوائر الفنيّة بعمق، لكن لا توجد وثائق رسميّة تثبت أنّ الوزير لم يُطلع على نص الاتفاق. هذه نقطة يمكن متابعتها عبر FOIA أو عبر أرشيف البرلمان المصري لتوثيقها.

 

مراحل ملء سد النهضة (للكهرباء وأشياء أخرى)

  • السعة الكاملة للخزان: حوالي ٧٤ مليار متر مكعب عند المستوى الكامل ٦٤٠ متر فوق سطح البحر (⁵).
  • المواد التخزينية الحية usable storage: حوالي ٥٩.٢ مليار م³ (⁵).

مراحل الملء بالأرقام (تقديرات مستخلصة من بيانات الأقمار الصناعية وتقارير دولية) (⁶)(⁷)(⁸):

خلال هذه المراحل، لم تنجح القاهرة في فرض جدول ملزم أو حصة تدفق دنيا خلال الجفاف الممتد، وهو جوهر الخلاف مع أديس أبابا (⁸)(⁹).

 

مراحل ملء السد 

 

نسب ملء سد النهضة (GERD) – مراحل الملء والمعلومات التقنية

  • السد بدأ البناء عام ٢٠١١.
  • السعة الكاملة للخزان: حوالي ٧٤ مليار متر مكعب عند المستوى الكامل (full supply level) عند ارتفاع حوالي ٦٤٠ متر فوق مستوى سطح البحر.
  • المواد التخزينية “الحية” usable storage هي حوالي٥٩.٢ مليار م³ بين الحد الأدنى لتشغيل التوربينات (minimum operating level تقريبًا ٥٩٠ م) والمستوى الكامل ٦٤٠ م).

 اتفاق المبادئ / الاتفاق الإطاري (Declaration of Principles) – ٢٠١٥

  • تم التوقيع على ما يُعرف بـ “Declaration of Principles” أي اتفاق إطاري بين مصر، السودان، وإثيوبيا في مارس٢٠١٥. بداية القصيدة إشكالية قانونية ورسمية تنسف الاتفاق.
  • الاتفاق يتضمن فتح قنوات للتعاون والتفاوض الفني حول الأثر البيئيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ لسد النهضة، وكذلك آليات لتبادل البيانات والمعلومات، لضمان أن بناء السد لا يُحدث ضررًا كبيرًا للدول المتضررة.
  • لكن من المصادر: لا توجد بند في الاتفاق بشكل صريح يعترف بما تُسميه مصر “الحقوق المكتسبة” بناء على المعاهدات القديمة (١٩٢٩ و١٩٥٩) المتعلقة بحصة مصر وسلطتها المحتملة في منع أيّ مشروعٍ دون موافقتها.
  • الاتفاق كان سياسيّا على مستوى الرؤساء ووزراء المياه/الخارجية، وليس اتفاقًا قانونيًّا ملزمًا بمعايير دوليّة أو دول منشئة معاهدة دولية.

أما عن نقاط ضعف الاتفاق في التنفيذ فالآتي هو على سبيل المثال لا الحصر

  • مصر وشركاؤها لاحظوا أنّ الاتفاق لا يملك آلية تنفيذ قوية أو متفق عليها لتحديد كيف يتم التعامل مع حالات الجفاف الممتدة، أو انخفاض منسوب المياه في السد العالي.
  • أيضًا، هناك رأي ومقالات تشير إلى أنّ الاتفاق لا يعالج كلّ القضايا الحاسمة: مثل الجدول الزمنيّ لملء السد، الانخفاض في التصريفات، والتعويضات المحتملة، وكيفية التنسيق الفني والتشغيل اليوميّ بين الدول.

 

الكارثة الكبرى 

الاتفاق نصًّا وفعليًّا لا أتخيّل أن يوقع المفاوض المصريّ على بندٍ كهذا:

”البند العاشر – مبدأ التسوية السلمية للمنازعات:

  •  تقوم الدول الثلاث بتسوية منازعاتهم الناشئة عن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقًا لمبدأ حسن النوايا. إذا لم تنجح الأطراف في حل الخلاف من خلال المشاورات أو المفاوضات، فيمكن لهم مجتمعين طلب التوفيق، الوساطة أو إحالة الأمر لعناية رؤساء الدول/رئيس الحكومة.“

تخيّلوا! النزاع في ”تفسير“ أو ”تطبيق“ الاتفاق يلزم ”التوافق“ والتفاوض ”بحسن النوايا“ إذا لم تنجح النوايا والقسم بحياة الأخوة، ساعتها يمكن لهم ”مجتمعين“ (انتبهوا – مجتمعين) طلب التوفيق أو الوساطة إحالة الأمر لعناية رؤساء الدول/رئيس الحكومة. لا أظنّ شرحًا إضافيًّا يلزم. بنود الاتفاق الإطاري غير الملزم العشر متاحة في الرابط أعلاه.

للأمانة الصحفية: ما لا يمكننا الجزم به

  • لم أجد مصدرًا موثوقًا يقول أنّ وزير الري المصريّ لم يعلم إطلاقًا عن الاتفاق أو لم يُطلع عليه، على الأقل في المصادر المتاحة باللغة الإنجليزيّة أو العربيّة التي بحثت فيها.
  • هناك أقاويل وتصريحات شعبيّة وسياسيّة تنتقد أنّ الاتفاقات والإعلانات تأتي دون شفافية كاملة، أو أنّ الأدوار والخبراء الفنيين لم يُشركوا كما ينبغي، لكني لم أجد تصريحا رسميا يؤكد أن وزير الري لم يعلم أو وقع الاتفاق دون اطلاع.

خطة عملي لاقتفاء هذه النقاط الغامضة سأتتبعها حثيثًا خلال الأسابيع القادمة بالرجوع إلى أرشيف تصريحات وزراء الري الأسبق (قبل٢٠١٥ وبعدها) أو أي مذكرات حكومية أو وثائق برلمانيّة لمعرفة ما إذا كان الوزير حينها قد اعتدي على دوره أو تمّ إهماله في اطلاع.

 

اتفاقيات مفقودة

اتفاقيات و مقترحات مفقودة أقتفيها حاليا على سبيل المثال لا الحصر “مقترح واشنطن” (Washington draft) الذي كان جزءًا من المفاوضات التقنية وهو ما تقاربه الدراسة الحديثة كأحد البدائل المقبولة من مصر يقترح خفض مستوى تشغيل السد في حالات الجفاف، لكن إثيوبيا لم تقبل كل المقترحات.

 

مسؤولية السلطة الحالية

لا يمكن الحديث عن هذه الدموع دون تحميل المسؤولية للسلطة الحاكمة. الفشل هنا ليس قدَرًا جغرافيًّا ولا أزمة موارد فقط؛ هو نتيجة مباشرة لقراراتٍ سياسيّة خاطئة، وسوء إدارة الملفات، وغياب الرؤية الاستراتيجية. من توقيع الاتفاق الإطاري لسد النهضة دون ضمانات، إلى سحب ملف الوساطة من الخارجية دون تطوير أدوات بديلة، إلى التماهي مع سياسات إقليمية تجعل مصر متلقية لا صانعة.

 

الدرس الأعمق

هذه اللحظة التاريخية تطرح سؤالًا وجوديًّا: هل يمكن لمصر أن تستعيد دورها الإقليميّ أم أنّ زمن الدولة العصب المركزية انتهى؟ الإجابة لن تأتي ببياناتٍ باهتة ولا صور بروتوكوليّة. تحتاج إلى إعادة بناء منظومة دبلوماسيّة حقيقيّة، إلى امتلاك أوراق ضغط، إلى سياسة خارجية لا تقوم على رد الفعل بل على المبادرة، وإلى إرادة سياسية تعيد الاعتبار لدور مصر التاريخي.

 

خاتمة

دمعتان على وجه مصر في قطر وأديس أبابا ليستا دمعتين عابرتين. هما إنذار أخير بأن الدولة التي كانت تقود صارت تُقاد، وأن الملفات التي كانت بيدها صارت أوراقًا في يد الآخرين. الاستعادة ممكنة لكنها لن تأتي بلا ثمن. تحتاج إلى مراجعة صريحة، إلى قيادة سياسية تتحمل المسؤولية، إلى رأي عام يضغط، وإلى جهاز دولة يعيد تعريف أولوياته. وإلا فسنرى دموعًا ثالثة ورابعة، إلى أن يجفّ النيل نفسه، وتغيب مصر نهائيًّا عن مسرح القرار الإقليميّ.

المراجع (Endnotes)

¹ Washington Institute – Qatar’s Gaza Strategy

² Brookings – Qatar’s Regional Mediation

³ Arab Center DC – Water Conflict Between Egypt and Ethiopia

⁴ Al Jazeera – The Tension-Ridden Hydro Politics of the Nile

⁵ Wikipedia – Grand Ethiopian Renaissance Dam

⁶ NASA Earth Observatory – A Grand New Dam on the Nile

⁷ Nature – Modelling the GERD

⁸ ScienceDirect – GERD Impact Study

⁹ Brookings – The Controversy over the GERD

 

شارك

مقالات ذات صلة