مدونات
في ظل نظامي دولي يتسم بالتغيرات السياسية الجذرية، وضمن إطار إقليمي شرع -فعلا- في القضاء على الإستبداد و الديكتاتوريات المتوارثة من المستعمِر و حلفاؤه المحليين، و أمام شعوب بدأت تفيق من سباتها و طفقت تفهم قواعد اللعبة و تغار بعضها على البعض أكثر من أي وقت مضى، و في ظل عَولمة لا يخفى عن الناخب ما سيفعله المترشح بعد جلوسه على كرسي الحكم…
في ظل كل هذه التطورات، تُرى كيف يمكن لموريتانيا أن تُغيِّر من جلدها التقليدي المستنزَف و المتوارث بين أفراد المؤسسة العسكرية؛ إلى جلد حديث نقي يساير ركب التطور و النمو وذلك عبر صناديق الإقتراع ؟ هل يمكن للإستحقاقات القادمة أن تتشكل كنقطة فصل بين ماضي موريتانيا المحبِط و مستقبلها المؤمَّل ؟ هذا ما سنناقش في الأسطر القادمة عبر التطرق للتأثيرات الجيوسياسية على عملية اختيار الرئيس الجديد و من ثم نقترح رؤى و فرص تسهل مهمة انتقال السلطة من أيدي العسكر إلى المدنيين المنتخبين .
أولا: التأثيرات الجيوسياسية على انتخابات ٢٩ يونيو في موريتانيا
من الصعوبة بمكان إنكار تأثير الظروف الدولية و الإقليمية السياسية و اقتصادية و حتى الجغرافية على انتخابات الداخلية لدول العالم الثالث؛ حيث أن هذه الدول تعتبر عنصرا أساسيا من عناصر اللعبة التي تلعبها الدول العظمى ضمن النظام الدولي الحديث. و لقد شهدت إفريقيا بشكل عام و الغَربية منها على وجه أخص تحولات سياسية بعضها دستورية و بعضها الآخر غير دستورية خلال خمس سنوات الآخيرة. منها على سبيل المثال مالي و بوركينا فاسو اللتان لا زالتا في المراحل الانتقالية إلى اليوم. كما شهدت الجارة السنغال تحولا دستوريا مهما في تاريخها، و مثله في تشاد التي نظمت انتخاباتها مؤخرا، و رغم أن انتخابات تشاد تختلف عن انتخابات سنغال من حيث رِضى الشعب و ما قيل عنهما من قبل المحللين، إلا أنها -أي تشاد، و على كل حال- استطاعت أن تنظم انتخابات رئاسية بعد دخولها في مرحلة انتقالية دامت ثلاث سنوات على خلاف مالي و بوركينا فاسو.
ومن منظور جيوسياسي يمكننا استخلاص تأثير الظروف السياسية المحيطة بموريتانيا على موريتانيا، و نتساءل هل تصب هذه الظروف في مصلحة الرئيس المنتهية ولايته أم لا ؟ تظهر الثأثيرات الجيوسياسية على موريتانيا و انتخاباتها الرئاسية من ناحيتين؛ ناحية إيجابية تصب في مصلحة الرئيس الحالي و أخرى سلبية تصب في خسارته.
إن ما حدث في السنغال مؤخراً من انتصار كاسح للشعب و تسليم السلطة لشباب من العامة شقوا طريقهم من القاع مسلحين بالتفكير الإصلاحي الديمقراطي، بعيدا عن عراقيل و قيود العسكر و ضغوطات الطبقات الاجتماعية المختلفة . هذا لدرس طازج للشعب الموريتاني الذي ينبغي أن يأخذ بكافة الوسائل الديمقراطية الممكنة للتحقيق النصر لنفسها و تسليم السلطة لمن يستحقها فعلا، و كما يقال:” الدول تحاكي الدول”. فمن الجدير بالحدوث أن تحاكي الشعوبُ الشعوبَ. رغم أنها إفريقيا التي لا تحكمها قوانين الطبيعة و لا القوانين الوضعية ولا دخل للديمقراطية ولا صناديق الاقتراع في أمرها . و كما أنها موريتانيا التي هي استثناء من الاستثناء .
ثانيا: هل من فرصة لتغيير السلطة؟
إن عملية تغيير السلطة في موريتانيا بطريقة سلمية من أيدي لا يتأتّى إلا بتحقيق مجموعة من العوامل أبرزها:
١- الاتحاد: إن الدولة الموريتانية من الدول الإفريقية التي تحتوي على أعراق متعددة من حيث اللغة و العرق و الثقافة، و هذا التنوع -بطبيعة الحال- أدى إلى نوع من العنصرية و التفرقة بين مكونات الشعب الموريتاني بطريقة مقصودة و غير مقصودة. بَيد أنه كان من المفروض أن يكون هذا التنوع هو سِرّ القوة لمواجهة الطغاة و الفاسدين، كما رأينا نماذج من هذا النوع في الدول العالم الثالث. فما دمنا نعيش في دولة وطنية شعارها الإخاء و العدل, و ما دام العامل الديني و العامل الوطني هما اللذان يجمعان الشعب الموريتاني؛ فمن الوعي سياسيا و حضاريا أن نضع يدا فوق أخرى و ننهض بأنفسها و نواجه المشاكل جنب إلى جنب. فهذا الاتحاد أو هذا الإخاء يقتضي نبذ العرقية و العنصرية و مسبباتها و هي مأمور منهي عنها شرعا و قانونا، و منبوذ دوليا، و عكسها ضرورة ملحة لأي دولة تريد أن تتقدم و تساير ركب التطور و النمو .
٢- الوعي السياسي: إن الوعي السياسي يتطلب أن يكون المواطن عارفا بحقوقه و واجباته(ما له وما عليها) اتجاه الدولة و المجتمع، كما يقتضي -أيضا- أن يعرف المواطن أن للمشاركة السياسية أهمية كبرى تتجلى في إعطائه قدرة على الانخراط في عملية اتخاذ القرارات في الدولة، و حقه في التصويت و الاختيار بطريقة حرة خالية من عيوب الإرادة، و حقه في الانضمام إلى الأحزاب و الجماعات السياسية و منظمات المجتمع المدني. و نتيجة كل ما سلف هي تحقيق وعي سياسي للمواطن يمَكِّنه من التنبؤ و رؤية المستقبل المشرق لدولته، و ذلك بمشاركة تلك طالما أنه أهل لذلك .
٣- المصلحة المجتمعية: و يعني ذلك أن يجعل المواطن مصلحة المجتمع و الدولة ككل فوق مصلحته الشخصية، و أن يتنازل عن بعض الاعتبارات و النُّزعات الفردية و البرغماتية تحقيقا للمصلحة الوطنية العليا، و لأهميتها هذه النقطة فقد أمرنا الشارع الحكيم بها و عمل بها النبي صلى الله عليه وسلم في مواقف عديدة من سيرته العظيمة، وقصة الصلح الحديبية خير دليل على ذلك. و النقطة هذه هي الإختبار الذي يفشل فيه كل مواطن موريتاني يدَّعي الوطنية و التضحية في سبيل مصلحة المجتمع؛ وذلك عندما تطرحه المواقف في ظروف تطلب التنازل عن واحدة من تلك المصالح. لماذا يفشل في الاختبار ؟ ببساطة لأن هناك خلل في عامل الإخلاص . أجل؛ فلكي يؤْثر المواطن المجتمعَ على نفسه فلا بد له من إخلاص للقيم الاجتماعية العليا -العدل و الإخاء والشرف مثلا- و لا بد للأفراد من توافق بين المصالح المختلفة للتوصّل إلى توافقٍ واسع على ما يشكل أفضل مصلحة للجماعة .
٤- صناديق الاقتراع في هذا العالم الديمقراطي الليبرالي لا يخفى على أحد أهمية صناديق الاقتراع في صناعة التغيير في دولة ما طالما أنها الوسيلة الشّرعية للتناوب على السلطة، و لِما تتيح من فرصة للجميع لاختيار قائد المجتمع بنفسه دون وسيطة. و أهمية الانتخابات في صناعة التغيير تتجلى في موريتانيا أكثر من أي دولة أخرى. ذلك أنها لا زالت في ذيل مؤشرات التنمية البشرية و السياسية و الاقتصادية. ولم تفت الفرصة بعد طالما يعد ٢٩ يونيو/ حزيران الجاري موعدا مضروبا لشيوخ موريتانيا و شبابها مع صناديق الاقتراع. و لا شك أن تغيير السلطة في موريتانيا عن طريق صناديق الاقتراع ضرب من الحلم و الخيال-حسب تفكيرنا التقليدي- إلا أنه ممكن مثل ما فعلت دول غير موريتانيا. و ذلك بتحقيق مجموعة من العوامل البسيطة التي تطرقنا لها آنفا و التي ستفتح أفاقا واسعا لمناشدي التغيير في البلد و تعطي فرصة للمستحقين لقيادة البلد في السنوات القادمة.
الخاتمة
إن هذه النقاط التي تحدثنا عنها سالفا، و غيرها.. تتشكل كـ رُؤى و آفاق بالنسبة للشعب الموريتاني، بتفعيلها على النحو الصحيح تتحقق التغيير المنشود، و لكي تتحق هذه الرُّؤى فلا بد من عمل فردي و جماعي على حد السواء. فالتغيير يبدأ من الفرد ثم يتسرب إلى جماعة و من ثم إلى المجتمع ككل. و أول محطة من محطات التغيير هي تغيير العقلية.. فالعقل هو الذي يتحكم في المنظورات الفكرية للفرد نحو الدولة و مستقبلها، فمتى ما حدث خلل في هذه المنظورات الفكرية؛ بأن يصبح الفرد يعتقد عدم جدوى الانتخابات الرئاسية و عدم قدراتها على صناعة التغيير، أو القول أن الذي يفوز معروف مسبقا، أو أن الدولة لا مستقبل لها و الهجرة أولى من المشاركة السياسية.
فحينها يكون المواطن قد وجه على نفسه رصاصة الإغتيال الفكري و قضى على منظوره السليم. لذلك على الشعب الموريتاني ككل، و على الشباب و المتطلعين لمستقبل أفضل على وجه الخصوص؛ أن يتأكدو من صحة منظوراتهم الفكرية السياسية و أن يُوجِّهوها نحو الوُجهة الصحيحة التي يتطلب الوصول إليها: الاتحاد و نبذ الفئوية و العرقية، و الوعي و المشاركة السياسية، و استعمال حق التصويت و حق الانخراط في التجمعات و الأحزاب السياسية و المشاركة في عملية اتخاذ القرارات، و تقديم المصلحة العامة على المصلحة الشخصية و نبذ البروغماتية، و العمل بالإخلاص و التفاني و الجِدية و التعلّم و المشاركة الفعالة من قبل المجتمع المدني… و ذلك كله من أجل أخذ الدولة من أيدي النخبة المستغِلة و إخراجها من عهد الفساد الى عهد البناء و التجديد.