أدب

علي الطنطاوي: فقيه الأدباء وأديب الفقهاء

سبتمبر 14, 2025

علي الطنطاوي: فقيه الأدباء وأديب الفقهاء

الرجلُ الذي تتوزَّعُ المناسبات ذكره، فإذا ذكرت القرن العشرين ذكرته، وإذا ذكرتَ الأدباء ذكرته، ومع الفقهاء ذكرته، ومع القضاة والأكابر والعلماء، ومع الشعب والعامة، كذلك تذكره، ومتى ما ذكرته وجدته أهلاً لذلك الذكر، فقيه الأدباء، وأديب الفقهاء، الشيخ علي الطنطاوي (1909–1999م)، الذي وصلَ بين روح الشريعة وذائقة اللغة، وهو الذي خلقَ منه الدهرُ رجلاً موسوعياً بامتياز، فامتدت مؤلفاته ومقالاته لتطوف حول الأدب والتاريخ والفقه والفلسفة وعلوم القرآن والسيرة، فبصمتُه حاضرة في ذاكرة العالم الإسلامي في شتى مساراته.

 

 

النشأة والبدايات العلمية

وُلد الطنطاوي في دمشق عام 1909م في أسرة علمية عريقة؛ فجده كان من أكابر العلماء، ووالده مصطفى الطنطاوي رجلٌ من أهل الديانة والفقه. نشأ وسطَ مرحلة مفصلية في تاريخِ الشام مع أفول شمس الدولة العثمانية وسطوةِ الاحتلال الفرنسي، وهو ما أورثه حسّاً مبكراً بالمسؤولية تجاه قضايا الأمة. درس الحقوق في جامعة دمشق وتخرج سنة 1933م، إلا أنَّ تكوينه لم يقف عندَ حدود القانون.. فاغترف من علوم الشريعة والأدب واللغة حتى غدا موسوعي المعرفة. وقد أثنى عليه أساتذته منذ شبابه، حتى لقبه أستاذه محمد بهجة البيطار بـ “نابغة الشام” قبل أن يبلغ الثلاثين.

 

 

بين القضاء والتعليم والإعلام

عاش أستاذنا علي الطنطاوي تجربة عملية امتدت من التدريس إلى القضاء ثم الإعلام. فبدأ حياته مدرساً في العراق وسوريا ولبنان، قبل أن يلتحق بالسلك القضائي، فعمل قاضياً في مدن سورية عدة، ثم مستشاراً في محكمة النقض بدمشق والقاهرة. وأسندت إليه مهمة إعداد مشروع قانون للأحوال الشخصية، ليصيرَ بعد ذلك أساساً للقانون المعمول به. لكن مسار حياته أخذ منعطفاً جديداً مع انتقاله إلى المملكة العربية السعودية في الستينيات، حيث عمل أستاذاً للشريعة والأدب في مكة والرياض، ثم انطلق إلى فضاء الإعلام عبر برامجه الشهيرة في الإذاعة والتلفزيون. وهناك تجلت عبقرياته في مخاطبة الناس، إذ جمع في أحاديثه بين الإقناع العلمي والإمتاع الأدبي، فدخل القلوب والعقول معاً.

 

 

 

شخصية فريدة ونزعة إصلاحية

كان الطنطاوي أكثر من مجرد عالم وأديب؛ كان مربّياً ومصلحاً اجتماعياً. عُرف بدفاعه عن المرأة والتحذير من ظلمها، حتى لُقِّب بـ “ناصر المرأة”. في بيته ربّى 5 بنات تربية صالحة، فغرس فيهن حب الدين والعلم، وظل نموذجاً للأب المربّي الرحيم.

 

كما وُهبَ حبَّ العزلة، فهي رفيقة العلماء وأهل الفضل، وكان شغوفاً بالعلمِ والقراءة، مائلاً إلى الخلوة والتأمل، ورغم ذلك ما انقطعَ عن الناس، إذ جعلَ من برامجه ومقالاته منابرَ للرد على أسئلة الجمهور وتبسيطِ المعارف الشرعية والأدبية. وكانت ذاكرته القوية ولسانه الفصيح وأسلوبه السهل الممتنع سرّاً في وصول رسالته إلى جمهور عريض من مختلف المستويات الثقافية.

 

 

 

مؤلفات وإرث أدبي

ترك الطنطاوي إرثاً ضخماً من المؤلفات التي ما تزال حاضرة في المكتبة العربية والإسلامية. ومن أشهر كتبه التاريخية: “رجال من التاريخ”، “قصص من التاريخ”، و”أعلام التاريخ”. ومن كتبه الأدبية والفكرية: “صور وخواطر”، “فكر ومباحث”، و”مع الناس”. أما سيرته الذاتية “ذكريات علي الطنطاوي” في 8 أجزاء، فقد شكّلت سجلّاً حيّاً للقرن العشرين، يجمع بين دفء التجربة وعمق التحليل، وهي فريدة جوهرة في بابها، وحريٌ بمن أحبَّ أن يعرفَ تاريخَ دمشق كما عاينه الناس أن يطلع عليه ويتمعن فيها وفي رجالات ذاك القرن؛ وإلى جانب كتبه، ترك الطنطاوي إرثاً إعلامياً قلّ نظيره؛ فقد كان من أوائل المذيعين في العالم العربي، بدأ في إذاعة يافا في ثلاثينيات القرن الماضي، ثم في بغداد ودمشق، قبل أن تستقطبه إذاعة المملكة العربية السعودية، حيث قدّم برامج استمرت عقوداً طويلة مثل: مسائل ومشكلات، نور وهداية، وعلى مائدة الإفطار.

 

 

أثر ممتد وحياة حافلة

امتدت إقامة الطنطاوي في السعودية 35 عاماً، متنقلاً بين مكة وجدة والرياض، مكرّساً جهده للتدريس والدعوة والإعلام. وخلال هذه العقود صار اسمه حاضراً في كل بيت عربي، وصوته مألوفاً لدى ملايين المستمعين والمشاهدين. كان يجلس في الحرم المكي يجيب عن أسئلة الناس، كما كان يكتب مقالات أسبوعية يتلقاها الناسُ بالقبولِ وطلبِ الاستزادة. وقد آثر رحمه الله الانزواء آخر حياته، فأعلن اعتزال الكتابة والإعلام، قائلاً إنه يطوي أوراقه ويمسح قلمه بعد أن أدى رسالته. رحل في حزيران/ يونيو 1999م عن عمر ناهز التسعين عاماً، ودُفن في مكة المكرمة بعد أن صُلِّي عليه في الحرم الشريف.

 

رحيل علي الطنطاوي شكل غياباً لعصر كامل من الأدب والفكر والدعوة. فقد جسّد نموذج العالم الذي يخاطب الناس بلسان العصر دون أن يتنازل عن ثوابت الدين، والأديب الذي يجعل الكلمة جسراً بين الفقه والقيم الإنسانية. رحل الطنطاوي عدى أنه ما زالَ حاضراً في أوراقه يضمُ أشتات المحبين وجموعَ القراء، ولطالما نظرتُ إليه في صفحاته جدّاً وكُل قارئ فهو أحدُ أحفاده على صفحة الأرض العريضة.

 

ترك تراثاً ما زال يُقرأ بحبٍّ، وسيرةً تلهم الأجيالَ أخيلةً من الأنوار والخير في صورٍ كثيرات، رحلَ جامعاً الأدبَ والعلم والشوق للمحبوبة القصية دمشق، الشام التي لطالما عشقها وتغنى بها، وألا ليته شهد تحريرها من نظامِ البعث وعائلة الأسد الذين اغتالوها كما اغتالوا ريحانته بنان وكسروا حلمه وقلبه، وجعلوا قلبه قبراً كما جعلوا في صدرِ كل سوريٍ مقبرةً من الكمد والألم.

شارك

مقالات ذات صلة