سياسة
منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، لم يعد النفط والغاز مجرد ثروة اقتصادية بل تحوّلا إلى أدوات نفوذ سياسي وعسكري. قبل ذلك كانت سوريا تنتج ما يقارب 380 ألف برميل نفط يومياً، إضافة إلى كميات كبيرة من الغاز الطبيعي تكفي لتشغيل معظم محطات الكهرباء المحلية. هذه الأرقام لم تجعل سوريا لاعباً عالمياً في سوق الطاقة، لكنها شكّلت مصدراً ثابتاً للدخل القومي، وأساساً لتمويل الدعم الاجتماعي والإنفاق الحكومي.
اندلاع الحرب غيّر المعادلة بالكامل. فقد تراجعت قدرة الدولة المركزية على السيطرة، وتوزّعت الحقول بين أطراف متعددة. في شرق الفرات، حيث تتركز أهم الحقول مثل العمر والرميلان، سيطرت قوات سوريا الديمقراطية بدعم من الولايات المتحدة، بينما بقي النظام محصوراً في بعض الحقول الأصغر أو المتوسطة في وسط البلاد، مثل حقل الشاعر في ريف حمص، واستعان بحلفائه الروس والإيرانيين لتعزيز وجوده هناك. هذا التوزع لم يكن تقنياً فقط بل سياسياً بامتياز، إذ تحوّل النفط إلى ورقة مساومة كبرى بين الأطراف، تُستخدم لتمويل العمليات العسكرية تارة، وللحصول على الاعتراف الدولي أو الدعم المحلي تارة أخرى.
الحقل الأكبر في البلاد، حقل العمر، كان مثالاً حياً على هذا التحوّل. فقد سيطر عليه تنظيم الدولة الإسلامية فترة طويلة، قبل أن تستعيده قوات سوريا الديمقراطية، ليصبح اليوم مصدراً رئيسياً لتمويل الإدارة الذاتية. إلى جانبه تقع محطة كونكو للغاز، التي تحوّلت إلى قاعدة عسكرية أمريكية مصغّرة، تُستخدم لتأمين الحماية للمصالح الأمريكية شرق الفرات، ولمنع أي طرف آخر من الاستفادة منها. أما في الشمال الشرقي، فحقل الرميلان، بأبراجه النفطية الكثيرة وبنيته التحتية التاريخية، بات تحت إدارة “قسد”، التي تستخدم عائداته لتسيير مؤسساتها وتمويل رواتب الموظفين والكوادر المحلية. وفي المقابل، يتركّز نفوذ النظام في مناطق الوسط، حيث الغاز أكثر من النفط، مثل حقول الشاعر في حمص، إلى جانب سيطرته على البنية التحتية للتكرير في بانياس وحمص.
روسيا بدورها حصلت على امتيازات بحرية في الساحل السوري، من خلال عقود للتنقيب في البلوك البحري رقم 1 قبالة طرطوس، بينما حاولت إيران التغلغل عبر مشاريع أصغر في قطاع النقل والتكرير. وهكذا، تحوّلت خريطة السيطرة على الموارد إلى خريطة نفوذ سياسية، يعكس كل موقع فيها قوة الحليف ودور الحامي، ويكشف حجم الانقسام الداخلي وتعدد الوصايات الخارجية.
إذا أردنا النظر إلى المستقبل، فإن أهم ما يلفت الانتباه هو قائمة المشاريع الكبرى التي يمكن أن تعيد إنتاج النفط والغاز كمحرك اقتصادي، لكنها في الوقت ذاته تكشف حجم التعقيدات التي تحيط بها. المشروع الأول والأكثر أهمية هو إعادة تأهيل حقل العمر، الذي يمكن أن يستعيد إنتاجاً يتجاوز 70 ألف برميل يومياً إذا ما تم إصلاح بنيته التحتية.
هذا الحقل يمثل ركيزة لأي اقتصاد محلي أو وطني، لكنه مرهون بتفاهمات سياسية كبرى. المشروع الثاني يتعلق بتشغيل محطة كونكو للغاز، وهي من أكبر محطات المعالجة في البلاد، وكان يمكن لها أن تخفّف كثيراً من أزمة الكهرباء لو أعيد تشغيلها وربطت بمحطات التوليد في دير الزور وحمص. المشروع الثالث يتمثل في تحديث حقل الرميلان وإعادة تفعيل شبكة الغاز المرافقة له، إذ إن هذا الحقل، إلى جانب إنتاجه النفطي، يحتوي على إمكانات غازية قادرة على تغذية شبكات محلية إذا توفرت الإدارة الفنية المناسبة. المشروع الرابع يخص حقول الوسط مثل الشاعر في حمص، الذي يُعدّ المصدر الأساسي للغاز المستخدم في محطات الكهرباء المركزية. وأخيراً، هناك مشروع استراتيجي بعيد المدى يتعلق بالاستكشاف في البلوك البحري قبالة طرطوس، وهو مشروع روسي بالدرجة الأولى، قد يربط سوريا بمسار الغاز في شرق المتوسط إذا أثبتت الدراسات وجود احتياطيات معتبرة.
لكن هذه المشاريع جميعها تواجه جملة من المعوقات البنيوية. فالبنية التحتية تضررت بشكل كبير خلال سنوات الحرب، والعديد من الآبار تعرضت للتخريب أو التآكل نتيجة عمليات استخراج بدائية نفذها تنظيم الدولة الإسلامية وفصائل أخرى. كذلك، تفرض العقوبات الدولية، ولا سيما قانون قيصر الأمريكي، حظراً شبه كامل على دخول الشركات الغربية أو الإقليمية غير المرتبطة بروسيا وإيران. وهذا يعني أن الاستثمار يظل محصوراً في دائرة ضيقة من الشركات القادرة على تحمل المخاطر والالتفاف على العقوبات. كما أن الانقسام السياسي يجعل أي عقد استثماري مهدداً بفقدان الشرعية إذا تغيّرت موازين السيطرة على الأرض. وبذلك، تبدو المشاريع الكبرى أقرب إلى “طموحات مؤجلة” منها إلى خطط قابلة للتنفيذ العاجل.
النظام السوري يرى أن استعادة السيطرة على الموارد النفطية والغازية ليست مجرد مسألة اقتصادية، بل شرط وجودي لاستمرار الدولة. فالعوائد النفطية تمثل شريان الحياة لاقتصاد متهالك يعيش على الدعم الخارجي. لذلك منح النظام امتيازات واسعة لشركات روسية وإيرانية، مكافأة لهما على دعمهما العسكري والسياسي. روسيا بدورها تتعامل مع هذه العقود بوصفها آلية لتثبيت وجودها الطويل الأمد في سوريا، سواء عبر حماية حقول الغاز في الوسط أو عبر مشاريع التنقيب البحري. أما إيران، فتعتمد على عقود أصغر، في التكرير والنقل، لكنها تعتبرها مدخلاً لترسيخ حضورها في البنية الاقتصادية السورية.
في المقابل، تحافظ الولايات المتحدة على وجودها العسكري شرق الفرات ليس فقط لحماية “قسد”، بل أيضاً كأداة ضغط على النظام وحلفائه. فوجودها في محيط محطة كونكو للغاز يضمن حرمان دمشق وطهران وموسكو من مورد مهم، ويمنح واشنطن ورقة مساومة في أي مفاوضات إقليمية. هذه المعادلة تجعل الاستثمار في الموارد السورية مشروطاً بمواقف القوى الكبرى، أكثر مما هو مرتبط بحسابات اقتصادية بحتة.
الخبراء الذين تابعوا الملف السوري يؤكدون هذه الصورة. البروفيسور جوشوا لانديس يشدد على أن إعادة تشغيل الحقول الكبرى لن تنجح ما لم يتم التوصل إلى توافق سياسي يوزع العوائد بشكل عادل، محذراً من أن تركيز الموارد بيد طرف واحد، مثل الإدارة الذاتية، سيؤدي إلى إطالة أمد الانقسام. أما الباحث مايكل نايتس من معهد واشنطن، فيلفت إلى أن كلفة الحماية الأمنية للحقول وخطوط الأنابيب قد تفوق العوائد، ما يجعل الاستثمار مخاطرة غير مضمونة النتائج في غياب تسوية سياسية. هذه الآراء تضعنا أمام معضلة جوهرية: الموارد موجودة، لكن البيئة السياسية والأمنية غير مؤهلة لتحويلها إلى ثروة منتجة.
المستقبل يبدو مفتوحاً على 3 سيناريوهات رئيسية. الأول هو سيناريو الانتعاش السياسي الجزئي، حيث تؤدي تسويات إقليمية إلى رفع جزئي للعقوبات، وتُفتح الأبواب أمام شركات روسية وصينية وربما إقليمية للدخول في عقود مشاركة إنتاج. هذا السيناريو قد يعيد بعض العوائد إلى الدولة المركزية، لكنه سيجعل الاقتصاد السوري أكثر ارتباطاً بمحاور إقليمية ودولية. الثاني هو سيناريو الاستقرار المجزأ، حيث تبقى الموارد موزعة بين الأطراف المحلية: الإدارة الذاتية في الشرق، النظام في الوسط والساحل، روسيا في البحر، وإيران في قطاعات أصغر. في هذا السيناريو، لا يتم استغلال الموارد بشكل فعّال، لكنها تُستخدم لتمويل الإدارات المحلية وإطالة أمد الانقسام. الثالث هو سيناريو التسوية الداخلية المدعومة دولياً، حيث يتم الاتفاق على إنشاء صندوق بإشراف دولي تُودع فيه عائدات النفط والغاز وتُوزّع بشكل عادل بين الأطراف. هذا السيناريو هو الأكثر طموحاً، لأنه يربط بين استثمار الموارد وإعادة الإعمار، لكنه يحتاج إلى إرادة سياسية دولية وتوافق محلي غير متوفرين في الوقت الراهن.
كل سيناريو من هذه السيناريوهات لا يعكس مستقبل قطاع الطاقة فقط، بل مستقبل الدولة السورية نفسها. فإذا تحقق السيناريو الأول، ستكون سوريا دولة مرتهنة لمحاور خارجية لكنها قادرة على تأمين حد أدنى من التمويل. وإذا تحقق السيناريو الثاني، فستبقى البلاد مجزأة اقتصادياً وسياسياً، وهو ما يعني استمرار الأزمة إلى أجل غير مسمى. أما السيناريو الثالث، فإنه يفتح الباب أمام إعادة بناء الدولة على أسس جديدة، لكنّ احتمالاته تظل ضعيفة في ظل الظروف الحالية.
يمكن القول إن النفط والغاز في سوريا تحولا من موارد اقتصادية محدودة إلى مفاتيح سياسية ترسم حدود النفوذ وتحدد مستقبل البلاد. فالحرب لم تدمّر فقط البنية التحتية، بل أفرزت واقعاً جديداً جعل من كل حقل أداة تفاوض، ومن كل محطة غازية قاعدة نفوذ عسكري. المشاريع الكبرى مثل العمر والرميلان وكونكو والشاعر والبلوك البحري تحمل في طياتها إمكانية إنعاش الاقتصاد وإطلاق إعادة الإعمار، لكنها تصطدم بعقوبات دولية، وصراعات محلية، وانقسامات سياسية. وإذا لم يُعالج ملف الحوكمة وتوزيع العوائد، فإن هذه الموارد ستظل لعنةً أكثر منها نعمة، وتبقى أداة لإطالة الحرب بدلاً من أن تكون أساساً للخروج منها. المستقبل إذن معلق بين الانقسام والتسوية، والاختيار لن تحدده وفرة الاحتياطيات بقدر ما تحدده الإرادة السياسية وقدرة السوريين وحلفائهم على إدارة الثروة بما يخدم الناس لا النخب الحاكمة.