مجتمع
الكاتب: عبد المنعم غريبي
في تاريخ سوريا الحديث، شكّلت الحرب التي شنّها النظام السوري السابق، والتي استمرت لأكثر من عقد إحدى أعظم الأزمات الإنسانية التي عرفتها البلاد على مرّ التاريخ، دمّرت البنية التحتية، وتسببت في نزوح ملايين الأسر، وسقوط عشرات الآلاف من الضحايا، فيما انحدر الاقتصاد إلى مستويات غير مسبوقة، بل وصل حد الانهيار.
عقب سقوط هذا النظام، وفي ظل غياب الدعم الدولي الكافي، وتأخر انطلاق مشاريع إعادة الإعمار الرسمية، إلى جانب العقوبات الدولية التي ما زالت تخيّم على سوريا، لجأ المواطنون إلى الاعتماد على جهودهم الذاتية لتأمين حلول إسعافية تحفظ عجلة الحياة من التوقف.
وهنا برزت الحاجة الملحّة للمبادرات المجتمعية الشعبية باعتبارها رافعة محلية للأمل والتنظيم والتكافل، وشكّلت هذه الحملات على مستوى البلدات والقرى والمحافظات حلولاً عاجلة ناجحة، استهدفت بالدرجة الأولى إعادة ترميم وتشغيل المراكز التعليمية والنقاط الطبية، وتفعيل آبار المياه والأفران، فضلاً عن إصلاح شبكات الكهرباء والمياه ومحولات الطاقة.
وقد اعتمدت المبادرات بشكل كامل على تبرعات الأهالي بمختلف فئاتهم، من معلمين وتجّار ورجال أعمال وحرفيين وغيرهم، سواء داخل سوريا أو خارجها.
جاءت هذه التبرعات على شكلين: مالية، وأخرى معنوية/ خدمية، مثل إجراء عمليات جراحية بالمجان أو بنصف التكلفة من قبل بعض الأطباء، ومشاركة أصحاب المهن كالنجارة والحدادة والبناء في أعمال الترميم دون مقابل، دعماً لهذه الحملات.
وحققت هذه المبادرات نجاحات ونتائج ملموسة على حياة المواطنين بشكل مباشر في بعض المناطق التي شهدتها، مثل بلدات وقرى في ريف إدلب وجبل الزاوية، ومدينة منبج وريفها في حلب، وأرياف حماة.
كما ظهرت مبادرات أخرى على مستوى المحافظات سجلت نجاحاً ملحوظاً بمشاركة منظمات المجتمع المدني وبعض الجهات الرسمية، مثل حملة “أربعاء حمص” والتي جُمع فيها نحو 13 مليون دولار أمريكي، أما حملة “أبشري حوران” فقد حققت نجاحاً أفضل، وجُمع خلالها مبلغ قدّر بما يزيد عن 36 مليون دولار أمريكي، إلى جانب مبادرات منتظرة كحملة “ريفنا يستاهل” في ريف دمشق وحملة “الوفاء لإدلب”.
أطلقت الحكومة السورية، بموجب مرسوم رئاسي صدر في 4 أيلول/ سبتمبر، “صندوق التنمية السوري” باعتباره مشروعاً وطنياً استراتيجياً يقوم على الشراكة بين الدولة ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص في الداخل والخارج.
ويتميّز الصندوق بتركيزه على القطاعات الحيوية، واعتماده إدارة عادلة وواضحة، ويساهم بشكل مباشر في تحسين حياة المواطنين، ويهدف إلى دعم عملية التعافي وإعادة الإعمار عبر ترميم البنى التحتية وتأمين السكن للعائدين والنازحين.
إضافةً إلى تعزيز التنمية الاقتصادية من خلال دعم الزراعة والطاقة والاستثمار المحلي، مع تعزيز دور القطاع الخاص في خلق فرص عمل جديدة. كما يهدف إلى تطوير التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية، وتهيئة بيئة آمنة تشجّع على عودة المهجّرين.
رغم أن المبادرات المجتمعية تُعدّ حلولاً عاجلة تُحدث فارقاً ملموساً في تحسين الواقع اليومي، فهي تواجه تحديات جمّة، أبرزها محدودية التمويل والموارد الأساسية، ونقص الكوادر المتخصصة لإدارة المشاريع الحيوية.
ويُضاف إلى ذلك العبء الاقتصادي الثقيل على كاهل الأهالي، ما يجعل استمرار هذه الجهود مرهوناً بالتضامن المجتمعي والإصرار على ابتكار حلول رغم كل الصعوبات.
في ظل هذا الواقع القاسي، ومع تردّي الوضع الاقتصادي، واستمرار آثار الحرب والعقوبات، تبرز الضرورة الملحّة للمبادرات المجتمعية كركيزة أساسية لاستمرار الحياة وتوفير مقومات العيش.
وتثبت التجربة أن هذه المبادرات قادرة على إحداث فارق حتى في أحلك الظروف، كما حدث في لبنان عقب الحرب الأهلية، لكن، رغم أهميتها، فإنها لا يمكن أن تعوّض بالكامل غياب الدولة أو الدعم الدولي، وإن كانت تمثل اللبنة الأولى لبناء مجتمع متماسك قادر على مواجهة الأزمات.
وإذا ما جرى دمجها في خطط وطنية شاملة، مع تعزيز الشفافية وضمان مشاركة المجتمع المحلي، يمكن أن تتحول إلى مشاريع تنموية مستدامة.
ومع كل هذه الجهود، يبقى السؤال قائماً: هل تكفي المبادرات الشعبية وحدها لإعادة إعمار سوريا أم أن الدعم الدولي يظلّ شرطاً أساسياً لتحقيق التعافي الشامل؟