فكر
طغت نشوة النصر خلال أول شهرين بعد تحرير البلاد، وهو الوقت الذي استوعب فيه الناس تدريجياً فكرة محورية مهمة، إنّ الحدث الكبير الذي غيّر مجرى التاريخ صار واقعاً، لكن الحروب إذا وضعت أوزارها تركت الضحايا يجردون الخسائر والانهزامات الماضية التي مرّت عليهم ويختلون بأنفسهم لتقدير حجم الأضرار، وهو ما يفتح باب المقارنات مع مجتمعات لم تسمع صوت الرصاصة ولم تشتم رائحة البارود، وبالتالي الشعور بحالة التفاوت الطبقي التي تضع الناس تحت ضغط نفسي كبير، خاصة مع بقاء الآلاف في المخيمات حتى الآن غير قادرين على العودة إلى منازلهم التي يحتاج ترميمها لمبالغ لا يملكون معشارها، والنتيجة أثر سيئ يترك في نفوسهم.
تزايدت حدّة الانتقادات والاعتراض على قرارات أو أحداث أو مواقف معينة، ومنها كانت محقّة وتستوجب تصحيحاً لا بدّ منه، والشيء بالشيء يُذكر، هناك حالات كانت قائمة على حجج غير موضوعية أو تفسير خاطئ بسبب الحكم على الأشياء من ظاهرها المتداول في المصادر المفتوحة، وإغفال الجانب الآخر الذي يبقى طيّ الكتمان في أروقة الدولة ومفاصلها، وأرجو أن تكون هذه الحالة عابرة ونوعاً من تفريغ الضغط النفسي والتعب الذي أثقل كاهل المجتمع ويُعذر له، لأنّ حجم القهر الذي نخر عظم السوريين تأبى أن تحتمله الجبال.
وقد ارتأيت أخذ الانتقادات المتكررة لوزير الإعلام كحالة مجتمعية وعينة تحتاج لتحليل تفاصيلها وقراءة ما بين السطور، انطلاقاً من سؤال رئيسي.
هل الانتقادات الموجّهة لوزير الإعلام محقّة وقائمة على حجج منطقية وموضوعية؟
إن حرية الرأي والتعبير والانتقاد حقّ كفلته مبادئ الثورة، وكُتب بدماء الشهداء لا بمداد المحبرة، لكن العاقل من يعرف متى وكيف وأين يستخدم هذا الحق، وليس كل منتقد عنده خبث ودوافع غير نزيهة ولا كل مبرر أو حتى مدافع في بعض الأحيان يتّخذ دور “المطبّل”، الاختلاف في الآراء ووجهات النظر حالة صحية في المجتمعات، ويجب تقبلها من كلا الطرفين، لكن هذه المقالة دعوة لقراءة كل مشهد في الشأن العام السوري بحكمة وإنصاف والبحث في التفاصيل وأخذ المشهد بسياقه العام قبل اتّخاذ موقف، ودعوة للتركيز على البناء والإنجاز وترك “الترند” وعدم الانجرار وراء الحملات الرقمية التي تقودها أطراف عديدة، خاصة إذا كانت تنطلق من حجج غير موضوعية، وقد تحدثت عنها في مقال سابق، وذات الأطراف لن تتوانى عن تغذية حتى الحملات التي تبدأ من الداخل في هذه المرحلة الحساسة -وإن كانت محقّة- لضرب الصفوف ببعضها، هذه المقالة محاولة بالكلمة للفت الأنظار نحو الأولويات والاهتمامات لا سيما مع إطلاق صندوق التنمية السوري في 4 أيلول/ سبتمبر، أي بعد مؤتمر “سكربت” مباشرة وأحد أهدافه كانت توجيه الحضور لدعم هذا المشروع المستدام، ولو بادر كل فرد لصرف نصف الوقت والجهد المبذول باللحاق وراء الترند وتوجيهه نحو دعم هذا المشروع الوطني والترويج له لكان ذلك أنفع وأثمر، لكنه مؤشر على خلل بتحديد الأولويات ومعرفة الجدوى.
قبل طرح الحلول نحتاج لتوصيف المشكلة، الجماهير التي تعيش سنوات من القمع تتعطش لتعويض الحرمان عند اللحظات الأولى من التحرّر ويطغى عليها الانفعال والاندفاع لتفريغ الطاقات الكامنة وحب إبداء الرأي في كل شأن، لمحاولة إثبات الذات وتعويض النقص وهذه من أصعب التحديات التي تواجهها الدول الناشئة في المراحل الانتقالية، والدول لا تقوم ولا تقاد بكل ما يطلبه الجمهور، والشريحة الثانية تحتاج لاحتواء وتفهّم وتحب المشاركة وتغمرها الفرحة برؤية سوريا الجديدة وهي شغوفة بالعمل لبناء مؤسسات الدولة، ورأس الحكمة هنا تجنب الصدام مع الأولى وإشراك الثانية في العمل.
دمج المجتمعات في المراحل الانتقالية يحتاج لتدرّج وفترات زمنية لا بدّ منها وتجنّب توجيه الصدمات لها، وفهم نفسية الجمهور واستيعاب فكرة رئيسية مهمة، الجماهير عاطفية تتحرك بتأثير المحرضات وتدفعها المشاعر والجرح كبير والتعالي على جراح 14 سنة ليس بالهيّن، والدول تنطلق من المحاكمة العقلية والتوجيهات والقوانين الناظمة، وتقبل هذه المفارقة مهم لتجنب الصدام المتكرر وترك خطاب نحن وأنتم.
إن المجتمع الذي تعرض لكل أنواع الظلم والاضطهاد ينظر أفراده للمجتمعات المحيطة التي التزمت الصمت واكتفت بالمشاهدة كشريك في الجريمة ومتواطئة معها، ويحمل تجاهها مشاعر الكراهية نتيجة الخذلان، هذا اعتراف وتوصيف للواقع الذي عاشته جنوب أفريقيا سابقاً وتعيشه سوريا حالياً، وتجاوزه يكون عبر العدالة الانتقالية التي تضمن المحاكمة والمحاسبة والاعتذار للضحايا، لنصل إلى دولة مستقرة تتقبل فيها المجتمعات بعضها، وتهدأ فيها حالة التوتر والتشنج من الجميع تجاه الجميع.
من رؤية شخصية، أجد في إعادة دراسة ملف المؤثرين وفلترة الأسماء ضرورة، للخروج بقائمة نهائية توافقية لا تثير حساسيات وإشكالات عامة، إلى جانب إحداث قاعدة بيانات عند كل الوزارات بأسماء شخصيات لها ثقلها الأكاديمي والاجتماعي والثوري، توجّه لها دعوات رسمية في الفعاليات والمناسبات العامة، لأن الشرارة كانت دائماً من هذه النقطة، إلى جانب تعزيز التواصل مع الكوادر التي أفرزتها الثورة، وهي لا تحتاج أكثر من مودة وقرب مع أصدقاء جمعهم درب النضال، وانتهى بهم إلى دمشق.