فكر

بين الانتقاد ومحاولة بناء جسور الثقة.. قراءة في انفعالات الرأي العام بعد التحرير

سبتمبر 13, 2025

بين الانتقاد ومحاولة بناء جسور الثقة.. قراءة في انفعالات الرأي العام بعد التحرير

طغت نشوة النصر خلال أول شهرين بعد تحرير البلاد، وهو الوقت الذي استوعب فيه الناس تدريجياً فكرة محورية مهمة، إنّ الحدث الكبير الذي غيّر مجرى التاريخ صار واقعاً، لكن الحروب إذا وضعت أوزارها تركت الضحايا يجردون الخسائر والانهزامات الماضية التي مرّت عليهم ويختلون بأنفسهم لتقدير حجم الأضرار، وهو ما يفتح باب المقارنات مع مجتمعات لم تسمع صوت الرصاصة ولم تشتم رائحة البارود، وبالتالي الشعور بحالة التفاوت الطبقي التي تضع الناس تحت ضغط نفسي كبير، خاصة مع بقاء الآلاف في المخيمات حتى الآن غير قادرين على العودة إلى منازلهم التي يحتاج ترميمها لمبالغ لا يملكون معشارها، والنتيجة أثر سيئ يترك في نفوسهم.

 

تزايدت حدّة الانتقادات والاعتراض على قرارات أو أحداث أو مواقف معينة، ومنها كانت محقّة وتستوجب تصحيحاً لا بدّ منه، والشيء بالشيء يُذكر، هناك حالات كانت قائمة على حجج غير موضوعية أو تفسير خاطئ بسبب الحكم على الأشياء من ظاهرها المتداول في المصادر المفتوحة، وإغفال الجانب الآخر الذي يبقى طيّ الكتمان في أروقة الدولة ومفاصلها، وأرجو أن تكون هذه الحالة عابرة ونوعاً من تفريغ الضغط النفسي والتعب الذي أثقل كاهل المجتمع ويُعذر له، لأنّ حجم القهر الذي نخر عظم السوريين تأبى أن تحتمله الجبال.

 

وقد ارتأيت أخذ الانتقادات المتكررة لوزير الإعلام كحالة مجتمعية وعينة تحتاج لتحليل تفاصيلها وقراءة ما بين السطور، انطلاقاً من سؤال رئيسي.

هل الانتقادات الموجّهة لوزير الإعلام محقّة وقائمة على حجج منطقية وموضوعية؟

 

  • توسّط وزير الإعلام لدى وزير الداخلية بهدف إخراج صحفية موقوفة وموافقة وزير الداخلية على إخراجها يعكس وجود قرار مشترك بين الوزيرين يُقدّر وفقاً لمصلحة عامة مع تأكيد الوزارة على استمرار محاكمتها وفقاً للقانون، وإن لم يرَ وزير الداخلية دوافع منطقية ومبررة لما قرر إخلاء سبيلها، وبدأت حينها حملة رقمية ضد وزير الإعلام فقط، وهذه جزئية تحتاج وقفة وإشارة استفهام!.
 
  • الوفد الإعلامي العربي الذي زار سوريا ضمنه بعض الشخصيات غير المرغوبة أو عليها تحفّظات عند جمهور معيّن، لكن تم استقبال الجميع في قصر الشعب وهذا قرار رئاسي وليس قرار وزاري، والدولة تسير بخطى مدروسة بناء على السياسات العامة التي رسمتها.
 
  • المعلومات التي تتحدث عن منح وزير الإعلام ترخيصاً لميشال المر صاحب MTV لافتتاح قناة “أنا سوريا”، إن صحّت فهي مبنيّة على الإعلان الدستوري الذي يضمن الحريات الإعلامية في سوريا الجديدة، والقرارات هنا تقوم على الالتزام بالقانون والدستور لا الانصياع إلى الرغبات والمشاعر، وتقييد الحريات سينعكس سلباً على تقييم الدولة في المؤشرات والتصنيفات عند الجهات الدولية المعنية، والقناة إن لم تُمنح ترخيصاً لها يمكن أن تعمل من الخارج بخط تحريري يناسبها، لذلك من الحكمة الترحيب بها وضبط عملها بميثاق الشرف ومدونة قواعد السلوك.
 
  • فئة صناع المحتوى لها جمهورها ووصولها ومؤتمر “سكربت” لا يسعى لتصدير الشخصيات المدعوّة، لأنها مصدّرة أساساً، ومنها شخصيات لها ثقلها الاجتماعي والثقافي وكان لها محاضرات قيّمة، والمؤتمر يوظفها من خلال محاولة رفع الوعي بطريقة النشاط والانتقال نحو التأثير الحقيقي عبر الحشد والمناصرة لصالح السوريين، وإيصال صورة حقيقية ومنصفة عن الوضع الداخلي، وتفنيد الدعايات والسرديات المضللة التي تحاول استهداف سوريا، وقد أخذ المؤتمر منحىً ثورياً في يومه الثاني بمداخلات قوية لشباب من جمهور الثورة كانوا مؤثرين ولهم دور مهم في معركة التحرير وهم الفئة المقصودة بتصريح الوزير، لكن تركيز الرأي العام توجّه نحو بعض الشخصيات ذات السلوكيات السلبية وهذا هامش خطأ تمثل بحضورها، ولا تستحق، بسبب الخلل في قائمة الدعوات الموجّهة وقد تكرر هذا الخطأ عند وزارات ومفاصل عديدة في الدولة وتسبب بردود فعل سلبية أبرزها تفسير المؤتمر كمحاولة للمساواة بين الثائر والرمادي ولا أراها كذلك، ولا بدّ من تجاوز هذه الثغرة في فعاليات قادمة، إلى جانب ثغرات في التنظيم والإدارة لكنها التّجربة الأولى ولا تخلو التجارب الأولى من أخطاء.
 

إن حرية الرأي والتعبير والانتقاد حقّ كفلته مبادئ الثورة، وكُتب بدماء الشهداء لا بمداد المحبرة، لكن العاقل من يعرف متى وكيف وأين يستخدم هذا الحق، وليس كل منتقد عنده خبث ودوافع غير نزيهة ولا كل مبرر أو حتى مدافع في بعض الأحيان يتّخذ دور “المطبّل”، الاختلاف في الآراء ووجهات النظر حالة صحية في المجتمعات، ويجب تقبلها من كلا الطرفين، لكن هذه المقالة دعوة لقراءة كل مشهد في الشأن العام السوري بحكمة وإنصاف والبحث في التفاصيل وأخذ المشهد بسياقه العام قبل اتّخاذ موقف، ودعوة للتركيز على البناء والإنجاز وترك “الترند” وعدم الانجرار وراء الحملات الرقمية التي تقودها أطراف عديدة، خاصة إذا كانت تنطلق من حجج غير موضوعية، وقد تحدثت عنها في مقال سابق، وذات الأطراف لن تتوانى عن تغذية حتى الحملات التي تبدأ من الداخل في هذه المرحلة الحساسة -وإن كانت محقّة- لضرب الصفوف ببعضها، هذه المقالة محاولة بالكلمة للفت الأنظار نحو الأولويات والاهتمامات لا سيما مع إطلاق صندوق التنمية السوري في 4 أيلول/ سبتمبر، أي بعد مؤتمر “سكربت” مباشرة وأحد أهدافه كانت توجيه الحضور لدعم هذا المشروع المستدام، ولو بادر كل فرد لصرف نصف الوقت والجهد المبذول باللحاق وراء الترند وتوجيهه نحو دعم هذا المشروع الوطني والترويج له لكان ذلك أنفع وأثمر، لكنه مؤشر على خلل بتحديد الأولويات ومعرفة الجدوى.

 

 

الحلول وبناء جسور الثقة

قبل طرح الحلول نحتاج لتوصيف المشكلة، الجماهير التي تعيش سنوات من القمع تتعطش لتعويض الحرمان عند اللحظات الأولى من التحرّر ويطغى عليها الانفعال والاندفاع لتفريغ الطاقات الكامنة وحب إبداء الرأي في كل شأن، لمحاولة إثبات الذات وتعويض النقص وهذه من أصعب التحديات التي تواجهها الدول الناشئة في المراحل الانتقالية، والدول لا تقوم ولا تقاد بكل ما يطلبه الجمهور، والشريحة الثانية تحتاج لاحتواء وتفهّم وتحب المشاركة وتغمرها الفرحة برؤية سوريا الجديدة وهي شغوفة بالعمل لبناء مؤسسات الدولة، ورأس الحكمة هنا تجنب الصدام مع الأولى وإشراك الثانية في العمل.


دمج المجتمعات في المراحل الانتقالية يحتاج لتدرّج وفترات زمنية لا بدّ منها وتجنّب توجيه الصدمات لها، وفهم نفسية الجمهور واستيعاب فكرة رئيسية مهمة، الجماهير عاطفية تتحرك بتأثير المحرضات وتدفعها المشاعر والجرح كبير والتعالي على جراح 14 سنة ليس بالهيّن، والدول تنطلق من المحاكمة العقلية والتوجيهات والقوانين الناظمة، وتقبل هذه المفارقة مهم لتجنب الصدام المتكرر وترك خطاب نحن وأنتم.

 

إن المجتمع الذي تعرض لكل أنواع الظلم والاضطهاد ينظر أفراده للمجتمعات المحيطة التي التزمت الصمت واكتفت بالمشاهدة كشريك في الجريمة ومتواطئة معها، ويحمل تجاهها مشاعر الكراهية نتيجة الخذلان، هذا اعتراف وتوصيف للواقع الذي عاشته جنوب أفريقيا سابقاً وتعيشه سوريا حالياً، وتجاوزه يكون عبر العدالة الانتقالية التي تضمن المحاكمة والمحاسبة والاعتذار للضحايا، لنصل إلى دولة مستقرة تتقبل فيها المجتمعات بعضها، وتهدأ فيها حالة التوتر والتشنج من الجميع تجاه الجميع.

 

من رؤية شخصية، أجد في إعادة دراسة ملف المؤثرين وفلترة الأسماء ضرورة، للخروج بقائمة نهائية توافقية لا تثير حساسيات وإشكالات عامة، إلى جانب إحداث قاعدة بيانات عند كل الوزارات بأسماء شخصيات لها ثقلها الأكاديمي والاجتماعي والثوري، توجّه لها دعوات رسمية في الفعاليات والمناسبات العامة، لأن الشرارة كانت دائماً من هذه النقطة، إلى جانب تعزيز التواصل مع الكوادر التي أفرزتها الثورة، وهي لا تحتاج أكثر من مودة وقرب مع أصدقاء جمعهم درب النضال، وانتهى بهم إلى دمشق.

شارك

مقالات ذات صلة