Search

Close this search box.

سياسة

الساحل بين الشرق والغرب: استعمار جديد أم شراكة استراتيجية؟

يونيو 22, 2024

الساحل بين الشرق والغرب: استعمار جديد أم شراكة استراتيجية؟

في ظل تغيرات عالمية، تسعى دول أفريقية لإعادة تحديث تحالفاتها، ما يُنظر إليه على أنه استبدال نفوذ قديم بآخر جديد. هذا المقال يستكشف ما إذا كانت هذه العلاقات الجديدة تُعتبر استعمارًا جديدًا أم شراكات متوازنة، ويُقدم تحليلًا لكيفية تأثير القوى العالمية في هذه التغييرات.  المقال مقسم إلى قسمين: يتناول الأول تحليل المصطلح “انتقال من استعمار إلى آخر” الشائع في الإعلام الغربي والعربي مؤخرًا، مستكشفًا دلالاته وأبعاده الخفية. والقسم الثاني يفحص الأسباب الموضوعية وراء تغير التحالفات في الساحل، والمنافع المادية التي تقود هذه السياسات، مؤكدًا على النهج الواقعي الذي يحكم السياسة الدولية بعيدًا عن الأمنيات المثالية.

 

في العام 2018، تبنت جمهورية أفريقيا الوسطى سياسة جديدة، متحولة نحو الاتحاد الروسي للتعاون الأمني، وذلك بعدما قطعت خيوط التحالف مع فرنسا، دولة الاستعمار القديمة التي كانت تتميز بأدائها المزدوج؛ إذ كانت تُساند حكومات وجماعات تمرد في أوقات متفاوتة. وفور قرار الحكومة الأفرو-وسطية تنوّع تحالفاتها، لم تلبث القنوات الفرنسية، والغربية التي تتصارع مع روسيا، أن بدأت بإذاعة عناوين وعبارات من قبيل، “الخروج من استعمار إلى استعمار” و”الانتقال من سيد إلى آخر”. هذه العبارات وجدتْ صداها حتى في القنوات الفضائية الأفريقية التي تتبنى الروايات الغربية المختلفة. ومع تبني دول الساحل الأفريقي، وخاصة تلك التي شهدت انقلابات عسكرية مؤخرًا، لسياسات تنوع التحالفات، أصبح استخدام هذه التعابير شائعًا في العديد من الأوساط، بما في ذلك العالم الإسلامي، دون إدراك أن هذا يُعزز الدعايات الغربية.

 

تتجلّى براعة الغرب، بكل ما تحمله من زخم استراتيجي، في ترسيخ أنماط فكرية وتعابير معينة عبر العقود، بما يشمل تفسيراته للأزمات في مناطق متفاوتة كالساحل وفلسطين وأوكرانيا. هذه الهيمنة الفكرية، التي تبدو وكأنها رياح تحرك سفينة الرأي العام عبر البحار الدولية، ليست مجرد نتاج عفوي للثقافة الغربية، بل هي منهجية متأصلة تمتد عبر العقود.

 

فالاستراتيجيون الغربيون، بمكر سياسي، يُحركون أدواتهم اللغوية ليس فقط لشيطنة خصومهم، بل أيضًا لتلميع صورتهم كحماة للقيم العالمية. وهذه الممارسات ليست إلا دليلاً على استمرارية نهج استعماري مبطن، يسعى للسيطرة على العقول قبل الأراضي. ولتحليل هذا المنحى الدقيق، أدعوكم، لنتأمل معاً في بعض النصوص التي تشرح كيفية إدارة التعابير، في: كتاب “تجار الأخبار: مقالة عن النزعات الشمولية في وسائل الإعلام”، الذي يقع في 513 صفحة والمنشور في أكتوبر 2018، توضح فيه الناقدة الفرنسية الشهيرة “إنغريد ريوكرو” بدقة متناهية تحيزّ اللغة في الاختيارات الصحفية، بتسليط الضوء على الميل الدائم للصحفيين الفرنسيين -وبالتالي الغربيين- نحو فرض مواضيعهم التي هم يرودونها على الجماهير، سواءً أكان ذلك في فرنسا أو في مستعمراتها السابقة في أفريقيا، مع أن الإعلام الغربي يُصور ذاته كمفتاح لفهم الأحداث ومضيء للعقول، ومن خلال شعارات مثل “فك رموز القضايا”. إلا أن اللغة الصحفية وخياراتها التحريرية أثبتت أن هناك تحيزًا يهدف إلى تمرير أيديولوجيات الغرب تحت ستار المعلومات الموضوعية بجرعة مفرطة للغاية، ولذا باتت الجماهير تنأى بنفسها عن تصديقها.

 

تقول إنغريد: “يكشف التحيز في اللغة الإعلامية الغربية، بوصفها مصانع للرأي أن: الهدف ليس فقط توجيه الأفراد حول ما يجب أن يفكروا به، بل أيضًا تحديد ما ينبغي عليهم الاعتقاد به.” وكلمة السر بالنسبة لي في مقولة إنغريد هنا هي “تحديد ما يجب أن يعتقده الناس”. جملة تُظهر تسيّد اللغة الإعلامية الغربية في الفضاء العام، حيث نجد أنها قد تمكنت من تحديد ما يجب علينا الاعتقاد به والتفكير فيه، وذلك بفرض النقاشات التي يجدر بنا خوضها يوميًا. وقد تمكن هذا النهج الإعلامي من السيطرة على ما يُعرض ويُناقش، محددًا الأحداث التي تستحق الظهور كـ “حدث اليوم”، وأكثر من ذلك، فرض نمطين فقط للتفكير لا ثالث لهما، مما يدفع الجمهور للانقسام إلى معسكرين: مؤيد ومعارض.

 

ففي الأزمة الأوكرانية مثلاً، تم فرض عبارة ” نُدين روسيا وندعم أوكرانيا”، وأي تعبير عن موقف آخر غيرها سيُعتبر دعمًا لـ”لاستعمار الروسي والحكم الديكتاتوري” بل تم منع تراخيص القنوات الروسية كي لا تطغى لغاتها الصحفية على عقول الجماهير الأوروبية. حتى في إفريقيا، لم يكن “عدم الاهتمام” خيارًا متاحًا، بل كان يجب فرض “أنماط تعبير محددة” في الأسئلة الموجهة إلى القادة الأفارقة من الصحافيين الأوروبيين، ولم يكن مقبولًا الحياد الأفريقي أو عدم التعليق.

 

بالمثل، في العدوان الإسرائيلي على فلسطين، فُرضت لغات وتعابير “تُدين حركة حماس وتجرّم احتجاز الرهائن، وتُعلن عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” وفي الوقت نفسه يُبعد كل تعبيرٍ أو لغةٍ من شأنها أن تثبت ارتكاب إسرائيل جرائم حرب أو إبادة جماعية. ومن يُحيد عن هذه الخطوط ويُحاول طرح نقاط منطقية بديلة، يُعاد سريعًا إلى الإطار الذي يُسيطر عليه الغرب باستخدام عبارات مثل تلك التي أطلقها بيرس مورغان: “لكن، هل تدين حماس؟” حتى وسائل الإعلام التي تحاول فرض لغات وتعابير مختلفة تُستهدف بتدابير قانونية قمعية أو حتى بالعنف، كما فعلت إسرائيل مع قناة الجزيرة.

 

وأيضًا الآن، في دول الساحل، التي تسعى للتحرر من الهيمنة الغربية التي تستنزف مواردها، لا يُسمح لها بمناقشة فشل التعاون مع الغرب لمدة تقرب من 60 عامًا في تحقيق التنمية أو حتى الاستقرار، أو الأسباب الحقيقية للنفور من الغرب. الشيء الوحيد المسموح به هو طرح سؤال “هل التعاون مع روسيا والصين استعمار جديد؟” ومن الضروري أن يُكرر أتباعهم وأبناء الطبقة المستفيدة من النهب الغربي هذا السؤال وراء كل قرار تتخذه دول الساحل، وكثيراً ما يَكتبُ أولئك الذين تم التلاعب بهم فكريًا ولغويًا، عبارة “ما الفائدة إذا كان الأمر يتعلق بالخروج من استعمار إلى استعمار؟” حتى وإن لم يكن للموضوع علاقة مباشرة بروسيا أو الصين. هذا يُظهر الاستعمار العقلي الذي يعيشه الكثيرون في عالمنا الإسلامي والأفريقي بسذاجة وحسن نية في الغالب.

 

مع الإشارة هنا، أن هذا النمط الغربي في التلاعب اللغوي يذكّرني باستراتيجية النازيين في إصمات الخصوم. ففي مذكراته الشخصية من 1939 إلى 1942، كتب وزير الدعاية النازية جوزيف جوبلز، الصديق المقرّب لأدولف هتلر، عبارة شهيرة له يقول: “نحن لا نريد إقناع الناس بأفكارنا فقط، بل نريد تقليص اللغة بطريقة تجعلهم غير قادرين على التعبير إلا عن أفكارنا.” وهي استراتيجية تكشف عن توجه نحو احتكار الفكر وتوجيه العقلية الجمعية، وتفسر كيف أن رؤية الإعلام للسيطرة الفكرية، ليس فقط من خلال الإقناع، ولكن بالأحرى عبر إعادة تشكيل القدرات التعبيرية للجماهير، محددًا بذلك حدود فكرهم ولغتهم، تمامًا كنهج الإعلام الغربي اليوم.

 

ولجميع ما سبق، لديّ مشكلتين رئيسيتين مع هذه التعابير:

 

أولًا، لا تدرك القنوات الغربية أنها، من خلال تبني هذه التعابير، تُدين الغرب نفسه أولًا وقبل كل شيء. ففي الجملة “انتقال من استعمار إلى آخر” يكمن اعتراف ضمني بأن العلاقة التي كانت تحظى بها فرنسا وبريطانيا وأمريكا وغيرها من الدول الأفريقية كانت “علاقة استعمارية”، على الرغم من تكرار ادعائهم بالتحالف أو الصداقة مع تلك الدول، وأن الاستعمار قد انتهى منذ عهود الاستقلال. وبالتالي، إذا كان التحالف الجديد مع روسيا في عام 2018 يُعتبر استبدالًا لاستعمار بآخر، فهذا يعني ضمنيًا أن أفريقيا الوسطى، مالي، وحلفائها لم تكن مستقلة حقًا ولا للحظة، وقبل الانتقال مما يسمونه ” إلى استعمار آخر” كانت تحت استعمار، وهذا يُقوي -دون إدراكٍ منهم- الروايات الأفريقية التي تُشير إلى أن العلاقة مع الغرب لم تخرج يومًا من الاستعمارية.

 

ثانيًا، تعبير “استبدال سيد بآخر” يُعتبر عنصريًا. فالغرب لا يزال يرى الأفارقة كـ “خدم” يبحثون عن سيدٍ جديد، وليس كبشر أحرار يبنون تحالفاتهم بوعي وتقدير، موازنين بين الخيارات المتاحة واختيار الأفضل لهم. ويتعمد الغرب اتخاذ لغة إعلامية مزدوجة في توصيف العلاقات مع أفريقيا، فعندما يتعلق الأمر بأفريقيا السوداء، تتحول التحالفات إلى “انتقال من سيد إلى سيد آخر”، بينما في مشهد السياسة الدولية خارج هذا الإطار، تُصاغ المصطلحات بدقة لتعكس شراكات استراتيجية وتحالفات. نجد هذا الازدواج في التعبير حيث توصف العلاقة بين روسيا وبشار الأسد مثلاً بأنها “تحالف”، والقواعد الأمريكية في الخليج بأنها “تعاونات عسكرية”. ولا تقتصر هذه الظاهرة على العلاقات الروسية السورية فحسب، بل تمتد لتشمل حالات أخرى كالتحالف العميق بين الجزائر وروسيا منذ الثورة على فرنسا، حيث لم يوصف بأن الجزائر استبدلت سيدًا بآخر، بل ظلت العلاقات توصف بـ”الحليف الجزائري، روسيا”.

 

مثال آخر يظهر في أوكرانيا، التي أصبحت بعد ثورة الميدان لعام 2014 أكثر اعتمادًا على الغرب وتجلى في الحرب الأوكرانية بوضوح، دون أن يُطلق على هذه العلاقة وصف “استبدال السيد الروسي بالغربي “. كذلك الحال مع كوريا الجنوبية واليابان التي تحتمي بالولايات المتحدة كليًا ضد الصين، ولا يُنظر إلى هذه العلاقات كعلاقات خضوع، بل كتحالفات استراتيجية.

 

ختامًا: إنّ الانتقاء الغربي في اللغة ليس إلا دلالة على توظيف الامبرياليين عبء التاريخ الاستعماري والعنصري الذي ما زال يلقي بظلاله على كيفية تقديم الإعلام الغربي لعلاقات أفريقيا مع الخارج. إذْ تُقدمها حين تكون في صالحها باعتبارها “تحالفات”، لكن إذا كان ضدها فهو “استعمار وسيد جديد”. محاولاً بذلك تأكيد صورة نمطية عنقودية تُحصر الأفارقة في دائرة الخضوع والاستلاب. فهل يدرك عالمنا الإسلامي والأفريقي هذا التلاعب اللغوي وما يحمله من دلالات استعلائية؟ ومؤكدٌ، أنّ الاستخدام الواسع لهذين التعبيرين يُعزز النظرة العنصرية كما يريدها الغرب تجاه الأفارقة، سواء كان ذلك بوعي أو بدونه.

شارك