أدب
رحل قبل عدة أسابيع الروائي المصري الإشكالي صنع الله إبراهيم عن عالمنا، في أحد مشافي القاهرة إثر إصابته بالتهاب رئوي، يبدر لذهن قرائه أنه ناتج عن التدخين الكثيف الحاضر دائماً في رواياته وفي حياته، الكاتب المصري الأكثر إشكالاً بكونه معارضاً لكل السلطات المتعاقبة في مصر، بل للسلطة أي سلطة، وخصم للإخوان المسلمين في مصر بعد وصولهم للسلطة بعد الثورة، بقي مدافعاً عن بوصلته الوحيدة، الإنسان المصري المهمش و الفقير والمسحوق من الطبقة الأكثر تضرراً من المجتمع المصري جراء سياسات أنظمة ما بعد الناصرية.
ولوحظ أن صنع الله المستبعد عن الإعلام والبعيد عن الأضواء والجوائز في حياته لما لمواقفه السياسية من حدة وخشونة تجاه السلطة بشكل عام، كان حاضراً على صفحات الصحف العربية وشريط الأخبار وبقوة ميتاً وغائباً، حيث وصف في عدة عناوين بآخر الروائيين العرب الكبار، مما يعكس أثر واضحاً للروائي المصري في الحياة الثقافية العربية، و يوضح أنه كان مقروءاً وصوته الروائي مسموعاً بشكل أو آخر حتى من خصومه السياسيين.
عندما كنت أبحث عن رواياته في مكتبة معهد العالم العربي في باريس، قال لي الموظف الشاب الفرنسي الذي تبدو عليه ملامح شمال أفريقيا، و باللغة الفرنسية أن صنع الله إبراهيم كاتب مقروء جداً لدينا، بحثنا آنذاك عن روايته القبعة والعمامة باللغة العربية ووجدنا أنها قد استعيرت مقدماً وعلينا أن ننتظر حتى يعيدها الشخص المستعير لكي أستعيرها بدوري، الحالة المتمردة على السلطة والمجتمع التي شكلها صنع الله إبراهيم كانت موضع اهتمام من قراء وناقدين داخل وخارج مصر، وبالتأكيد يسارية الرجل وعدائه لتيار الإسلام السياسي شكّلا رافعتي شهرته أوروبياً وغربياً فترجمت رواياته للغات الفرنسية والإنكليزية، وجذبت أنظار النقاد الغربيين إليه.
صنع الله إبراهيم الكاتب والسجين السياسي السابق والمعارض لأنظمة مبارك والسادات، وسجين عبد الناصر رغم محبته له أي لعبد الناصر والتي لا يخفيها سواء في المقابلات أو في رواياته، فقد كانت رواية 1970 أشبه بمرثية لنظام عبد الناصر على علات هذا النظام وقمعه الذي طال الشيوعيين المصريين، بل أودى بحياة رفاق صنع الله إبراهيم القريبين في سجونه، كما يروي صنع الله إبراهيم عن وفاة شهدي عطية معه في السجن تحت التعذيب في يوميات الواحات، رواية 1970 أعطت صورة مليئة بالنستالوجيا والحنين إلى الناصرية، وبالرغم من الحيف والظلم الذي طال الناشطين السياسيين في حقبتها، إلا أنها بقيت الأثيرة في نظره، وكان صنع الله إبراهيم كان قد أكد على رأيه في الزعيم العربي الأسمر في مقابلة شهيرة على وسيلة إعلامية عربية كبرى له منذ سنوات عديدة عقب الربيع العربي، حيث بدا أن الروائي العنيد غير مقتنع بحراك الربيع العربي وبدا مشككاً في نتائج الثورة المصرية عام 2011 حيث قال إن “الناس تركوا ميدان التحرير بعد رحيل مبارك وكأن الأمر انتهى”.
وأمام انتقاده لكل شيء وكل الحقب الزعاماتية المتعاقبة في مصر، سألته المذيعة إذا كان يحن للعهد الملكي في مصر فأكد أنه هو حقبة سيئة بالتأكيد بل الأسوء وبدا أنه تفاعل مع استفزاز المذيعة بشكل واضح، وكذلك وصف حقبة السادات ومبارك وفترة حكم مرسي القصيرة والتي وصفها بحكم الظلام، موقفه من الربيع العربي أثار الانتباه لموقف المثقف الملتبس من أي حراك شعبي، وخصوصاً من روائي كرس نفسه للتصدي للسلطة عن طريق الفن الروائي، ليجد نفسه في وادي وحركة الشارع في وادب آخر، كذلك الموقف الذي وصف بالمازوخي تجاه عبد الناصر بحسب البعض فهو أحب الزعيم وغفر له رغم أن حكمه كان أيقونة في تغول الدولة البوليسية وما رافقها من مصطلحات ظهرت لأول مرة في المنطقة العربية من الحيطان لها أذان أو يختفي خلف الشمس، وهي أساليب عُرفت عن أجهزة الأمن الناصرية بل روجت لها لكي تثير أكبر جرعة من الخوف لدى المواطن المصري.
لم يكن نتاج صنع الله إبراهيم نتاجاً مصرياً خالصاً يهتم ويعالج قضايا البيئة المحلية كما في التجربة المصرية الكبيرة لنجيب محفوظ بل نرى صنع الله إبراهيم يخرج عن إغراء العزلة في القطر المصري الكبير والغني بتفاصيله وبيئاته وأزماته، ليكتب عن لبنان في “بيروت بيروت” ويعطي تشخيصه للمسألة الطائفية في لبنان التي يلمح أنها مشكلة إقطاع سياسي لعائلات تتوارث زعامات الطوائف منذ ما قبل انهيار الدولة العثمانية، وعن الاتحاد السوفييتي في رواية “الجليد” حيث يصف بداية الانهيار في المنظومة السوفييتية في أرض السلام وتفككها التدريجي أمام النموذج الغربي الليبرالي، ليطل علينا لاحقاً ويكتب عن برلين والهجرة العربية لأوروبا، كتب أيضاً عن اليمن وسلطنة عمان في روايته “وردة” وكتب عن السجون في بلاد العالم الثالث في روايته “شرف”، ثم عن الحملة الفرنسية إلى مصر في روايتين اثنتين هما “القبعة والعمامة” و”القانون الفرنسي” والذي قدم فيهما صورة مختلفة عن الصورة التي أحاطت بنابليون بونابرت وحملته الشهيرة، فقد بدا فيها القائد الفرنسي دكتاتوراً قزماً مهزوماً عسكرياً على أسوار عكا قصير القامة كثير الخيلاء والاعتداد بالنفس، ولولا تسخير أجهزة الدعاية في وقتها من فن وصحافة وتوجيهها نحو تضخيم الإنجازات الضئيلة والتعتيم على الجرائم والانتهاكات لوجدنا البطل الفرنسي الكورسيكي في مكان مختلف من التاريخ، كما أنه لفت النظر لتحليل تاريخي غير مطروح سابقاً افترض أن المنطقة العربية كانت تتفاعل مجتمعياً بشكل طبيعي لتصنع نهضتها لولا الحملة الفرنسية التي قطعت هذه التطور ونسبت لنفسها بشكل أو آخر الفضل بيقظة الشعب المصري، بل بإيقاظ الشرق الأوسط من سبات عميق.
وكانت لصنع الله المصري مغامرة خاصة في سلطنة عمان التي سلطت الضوء على التحولات الاجتماعية في اليمن والجزيرة العربية عقب الحرب العالمية الثانية كانت “وردة” وكانت نتاج جهد هائل بذله صنع الله إبراهيم من الاطلاع وتتبع تاريخ وطبيعة هذه المجتمعات وما جرى من تحولات سياسية مهمة في تلك الحقبة، ليخرج فيها بمستوى إبداعي وروائي عالي الجودة لا يشبه بتاتاً التجارب الروائية الأولى كرواية “67” ورواية “يوميات الواحات” والتي قال عنها صنع الله إبراهيم نفسه إنه نشرها لاحقاً بعد أن وضعت جانباً لسنوات لأنه يفخر بتجاربه الكتابية الأولى على بساطتها وسذاجتها، باعتبارها تجارب البدايات الأولى، وهو ما كان واضحاً في “يوميات الواحات” التي قال في مقدمتها أنه واجه صعوبة في بداية مشواره الروائي مما اضطره إلى استعارة ثلاثية نجيب محفوظ من أحد أصدقائه الشيوعيين في السجن لشحذ خياله الروائي وهمته على الكتابة.
ليخرج من السجن لاحقاً وينشر روايته الأولى “تلك الرائحة” وقد قدم لها الروائي المصري الكبير يوسف إدريس والذي بشر عبر مقدمته بأنه يقدم موهبة روائية فذة وأصيلة لتتوالى لاحقاً رواياته خلال حقبة السادات ومبارك والتي بلغ فيها الرجل أوج عطائه كونه كان خصماً عنيداً للسلطة فيهما ووجد في الفن الروائي فناً يستطيع فيه تمرير أفكاره المعارضة للسلطة، أو وجد فيها أسلوباً للمعارضة والحياة في ظلهما الثقيل، فيما صوره في رواياته من بيع للبلاد لأمريكا الإمبريالية وإلحاق مصر بها سياسياً واقتصادياً بدعوى الانفتاح على العالم الغربي بعد معاهدة كامب ديفيد مع اسرائيل 1979، السلام الذي زاد المصريين فقراً وزاد البلد ضعفاً وهشاشة، لولا كامب ديفيد ربما لما وجد صنع الله إبراهيم ولما قرأنا “شرف” و”1970″ و”اللجنة” و”أمريكانلي” (أمري كان لي) فقد شكلت حقبة ما بعد ناصر حافزاً على الكتابة والمواجهة ربما سارت جنباً إلى جنب مع موهبة تحتاج إلى هذه البيئة لكي تنطلق.