سياسة

من الانقطاع إلى الانخراط: قراءة في محاولات واشنطن لإحياء علاقاتها مع دول الساحل

سبتمبر 11, 2025

من الانقطاع إلى الانخراط: قراءة في محاولات واشنطن لإحياء علاقاتها مع دول الساحل

شهدت دول منطقة الساحل الإفريقي (مالي، بوركينا فاسو، النيجر وغيرها) سلسلة انقلابات عسكرية منذ عام 2020، ما أدى عملياً إلى قطع معظم تعاونها مع واشنطن. فبعد كل انقلاب طبّق الكونغرس الأميركي بنداً في قانون المساعدات الخارجية (المعروف ببند 7008) يحظر إرسال دعم أمني واقتصادي لحكومات أتت عبر انقلاب عسكري. نتيجة لذلك، جمدت واشنطن المساعدات التنموية والعسكرية لتلك البلدان. فعلى سبيل المثال، أوقفت أمريكا قرابة 158.7 مليون دولار من المساعدات إلى بوركينا فاسو بعد انقلاب يناير 2022.

كما انسحبت الوحدات الأميركية تدريجياً من قواعدها في المنطقة، فقد أُمر الجيش النيجر بحلول خريف 2023 بإخراج نحو1000 جندي أميركي من قواعده الجوية في نيامي وأغادِز. وفي عام 2024 دخلت وحدات روسية مواقع كانت تستضيف قوات أميركية في النيجر، بينما انسحبت واشنطن من تشاد ودُفع بقوات فرنسا واليونيفيل إلى الخروج من مالي وبوركينا.

لكن مؤخرًا، أعلنت كلّ من النيجر ومالي وبوركينا فاسو عن رغبتها في توسيع شركائها الدوليين، وأبدت اهتماماً بالتحاور مجدداً مع الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، قامت وفود أميركية سياسية وعسكرية مؤخرًا بزيارة تلك العواصم. فقد ضمّت وفد الكونغرس الأميركي الذي زار منطقة الساحل في صيف 2025 عدة أعضاء بارزين كانوا بالأساس من لجنة الخدمات المسلحة في مجلس النواب، منهم النائب الجمهوري أوستن سكوت (من ولاية جورجيا) والنائب الديموقراطي سالود كاربخال (كاليفورنيا)، إضافة إلى النائب الديموقراطي جيمي بانيتا (كاليفورنيا) السابق بلجنة الخدمات المسلحة وأحد أبرز الأصوات الديموقراطية في الأمن الدولي.

كما شملت الزيارات ثلاثة من كبار الدبلوماسيين والأمنيين في إدارة ترامب: نائب مساعد وزير الخارجية لشؤون إفريقيا ومسؤول ملف الساحل ويليام ستيفنز، والمستشار المباشر للأمن ومكافحة الإرهاب في مجلس الأمن القومي رودلف عطا الله. وقد اجتمعت هذه الوفود بمسؤولين في العاصمة البوركينابية واغادوغو (رغم رفض السلطات لقاء قائد الانقلاب إبراهيم تراوري شخصياً) وبدا أن المحادثات تناولت ضرورة عودة العملية الانتخابية الديموقراطية لإعادة العلاقات الكاملة. ومن بين الحضور، التقى الأميركيون عثمان بوغوما، رئيس البرلمان الانتقالي في بوركينا فاسو. وقد شدّد الجانب الأميركي في المشاورات على أن المصالح المشتركة في الأمن يجب أن تمهّد لفتح أبواب التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري، شريطة الالتزام بمسار انتخابي واضح.

بالتزامن، توجه كبار مسؤولي الخارجية الأميركية إلى المنطقة بهدف استئناف الحوار. ففي مايو 2025 قضى ويليام ستيفنز جولته في مالي ونيجيريا وبوركينا والنيجر، مع تركيز واضح على محاربة الإرهاب وتبادل المعلومات الاستخبارية (وبحسب مراسلين فإنه أشار إلى إمكانيات الاستثمار الخاص الأميركي في دعم جهود مكافحة الحركات الإرهابية). وفي نفس الفترة التقى رودلف عطا الله وزير الخارجية المالي عبد الله جوب في باماكو، وسط بحث في “مكافحة الجماعات الإرهابية المسلحة” وأهمية استقرار مالي لتمهيد التعاون الاقتصادي.

تجدر الإشارة إلى أن الكونغرس نفسه أعرب عن رغبته في متابعة هذا التحوّل؛ إذ تضمن مشروع قانون تفويض الدفاع الوطني بنوداً تطلب من البنتاغون إعداد “تقييمات واستراتيجيات” لتوسيع الشراكات الثنائية في دول الساحل، ورفع تبادل المعلومات لتعزيز اليقظة في المجال البحري والجوي. كما بدأت الولايات المتحدة رفع بعض القيود الدبلوماسية الرمزية؛ فعلى سبيل المثال، سلّم السفير الأميركي الجديد في النيجر، كاثلين فيتزجيبون، أوراق اعتمادها إلى رئيس النيجر عبد الرحمن تياني في مايو 2025 بعد تأجيل دام قرابة عامين بسبب انقلاب 2023. وأعربت النيجر عن رغبتها في تطبيع العلاقات الثنائية، إذ استؤنفت خدمات القنصلية في نيامي مطلع عام 2025 بعد تجميدها في 2024.

 

دوافع إعادة التقارب

هناك عدة اعتبارات وراء عودة الحراك الأميركي إلى الساحل. أولاً، يشكل تصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية والجهادية (المتصلة بالقاعدة وداعش) تهديداً مشتركاً لكل من حكومات المنطقة والولايات المتحدة. فخلافاً للتوقعات الروسية، لم تنجح الروس في القضاء على التمرد، بل ازدادت الضربات والاختطافات. ويمثل عدم الاستقرار في الساحل بؤرة خطر يمكن أن تمتد إلى غرب إفريقيا. لهذا فإن واشنطن ترى أن الدفع بعودة المشاريع الأمنية المشتركة (التدريب العسكري، تبادل المعلومات، دعم القوات المحلية) ضرورة ملحّة حتى مع الأنظمة الحالية بهدف “تأسيس علاقة سليمة تساعد تلك الدول على تأمين حدودها ومحاربة الميليشيات الإرهابية”.

ثانياً، ثمة اهتمام أميركي متزايد بالموارد الطبيعية في المنطقة. فمالي وبوركينا فاسو نالتا استثمارات أجنبية في الذهب والليثيوم، والنيجر تصدّر اليورانيوم. في ظل تنافس عالمي على المعادن الاستراتيجية، تريد الولايات المتحدة دعم الشركات الأميركية لحجز مواقع في هذه الدول. ولكن ثمة حذراً من أن تصبح المصالح التجارية هي الدافع الوحيد. فقد حذّر عدد من النواب والدبلوماسيين المخضرمين من أن تبسيط السياسة الأميركية إلى “صفقات المعادن” فقط سيُخاطر بإغفال الموضوع الرئيسي وهو الأمن والاستقرار. على سبيل المثال، كان حليفهم الديموقراطي السابق جيمي بانيتا قد نبّه إلى أن “تهديد الإرهاب هو أكبر قضية… وتثبيت الاستقرار هو مفتاح أي آمال في الاستثمار”. وبالفعل، ركزت العروض الأميركية الجديدة على مفاهيم الأمن القومي وثبات المنطقة في الغالب، مع فتح المجال لاحتمالات اقتصادية مصاحبة.

 

الوجود الروسي وتوازن القوى

أهم سبب لحجم الاهتمام الأميركي الحالي هو التنافس مع النفوذ الروسي المتنامي. فغنيٌ عن البيان، أنه بعد الانقلابات طُردت فرنسا وغادرتْ قوات أميركية بعض القواعد، لتتجه حكومات الساحل إلى روسيا. وقد أرسلت موسكو “فيلق إفريقيا” لتدريب ودعم الجيوش المحلية ضد الجهاديين. كما سعت إلى توقيع صفقات تعدين، فبعد تأميم النيجر لشركة أورانو الفرنسية، أعلنت روسيا رغبتها في استخراج اليورانيوم هناك بنفسها. وبحسب مراقبين، فإن بعض القادة المحليين “لم يمانعوا في وجود الروس” لكنهم لا يزالون متحفّظين، ويرغبون في فتح الباب للولايات المتحدة أيضاً. وقد أكد القائد الجديد لأفريكوم في جلسة تأكيد تعيينه أن العلاقات التي بنيت مع جيش النيجر “ما زالت قائمة” ويعتقد أن وقت العودة الأميركي سيحين. الأكيد أن أي حكومة عسكرية جديدة تعتبر أن وجود شركاء بديلين (حتى روسيا) مقابل الغرب يزيد من شعبيتها، إلا أنها تحتاج في الوقت ذاته للمصادر المادية والدعم الفني، وهو ما قد يمنح فرصة للولايات المتحدة لإثبات قدرتها على تقديم إمكانات تفوق عروض الخصوم.

بناءً على مصادر مفتوحة، يبدو أن الروس لم ينجحوا فعليًا في إرساء الأمن المرجو، لذا ترى الإدارة الأميركية الحالية بأن فرصتها تكمن في إظهار نتائج عملية في مكافحة الإرهاب. في هذا الإطار، تروج واشنطن للنهج العملي الذي يربط بين الاستقرار والنمو الاقتصادي: “إذا توفر الأمن، سيتوفر التداول التجاري، وإلا فلن تتوفر التجارة”. باختصار، تقوم السياسة الأمريكية الجديدة تجاه الساحل على منطق عملي يمزج بين الأمن والمصالح الاقتصادية؛ فهي لا تقدم مساعدات تقليدية كبيرة، لكنها تعرض معدات استخباراتية، وتدريباً لقيادات عسكرية، فضلاً عن دعم الاستثمارات الخاصة على شكل شراكات تجارية، كل هذا كي لا تترك المعادن الاستراتيجية في قبضة روسيا وحدها.

 

آفاق التعاون الجديدة كما تريدها إدارة ترامب

إذاً، ثنائية التعاون المتوقعة تشمل:

  • الأمن ومكافحة الإرهاب: تستمر واشنطن في تعظيم التعاون الاستخباري والتدريبي مع قوات الساحل في إطار مكافحة التنظيمات المتطرفة. وفي موازاة اللقاءات الدبلوماسية، من المتوقع أن تنشط تدريبات مشتركة وتبادل معلومات بين جيوش واشنطن وشركائها الإقليميين، رغم القيود القانونية الحالية (قيد بند 7008).
  • التجارة والاستثمار: ستركز واشنطن على فتح السوق الأميركية أمام صادرات المنطقة والترويج للاستثمارات الأميركية في القطاعات الاستراتيجية كالطاقة والزراعة والموارد المعدنية. تتضح هذه الأولوية في شعار “التجارة لا المساعدات” الذي أعلنته الخارجية الأمريكية مؤخراً، وفي عدد من الزيارات التي ربطت التعاون الأمني بالأعمال الخاصة.
  • الدعم التنموي والإنساني: بالرغم من القيود على المساعدات الحكومية، قد يشهد التعاون مجالات إنسانية وتنسيقاً في مشاريع إغاثية وتعليمية تحت مظلة منظمات أو بعثات خاصة. فحتى بعد انقضاء بند منع المساعدات، فقد ظل بعض برامج الإغاثة والتعليم والمدنية جارية بتمويل أميركي محدود.

إذن، لا يُستبعد أن يقدم الكونغرس ضغطاً إضافياً لإنجاح إعادة الانخراط. فقد أبدت أوساط في مجلس النواب ارتياحها لبدء التواصل وتشجيعها على تركيز الجهود على بناء الثقة الأمنية والاقتصادية المتبادلة. وفي الوقت نفسه، يظل الحذر سائداً حيال أي مصالحة مع أنظمة انقلابية قبل العودة الفعلية للديموقراطية. فمسؤولو واشنطن لا يزالون يشددون على أن “الخطوات المحددة” المطلوب اتخاذها تشمل ضمان إجراء انتخابات حرة ونزيهة. وهذا يعني أن أي تعاون عسكري أو اقتصادي كامل قد يُرتبط بجدول زمني واضح لإعادة النظام المدني.

في التتمة، تبدو عودة العلاقات الأميركية إلى الساحل مجدية على المدى المتوسط إذا توافرت ضمانات للإصلاح ودعم حقيقي للاستقرار. يزيد الوجود الروسي الراهن من حماس الأميركيين لاستعادة النفوذ، لكن النتيجة تعتمد على توازن دقيق بين مصالح التجارة والأمن. ويعيش الجانبان، الأمريكي والساحلي، فترة تجريبية للتعاون؛ وإذا نجح هذا المسعى في تخفيف تهديد الإرهاب وإعادة تأهيل الحكم الديمقراطي في تلك الدول، فقد يسفر عن علاقة شراكة أوسع ومستقرة. حتى ذلك الحين، يبقى خيار التعاون التجاري والمعادن في صدارة الأجندة الأميركية، مصحوباً بالتأكيد على أهمية الجوانب الأمنية كشريك لا غنى عنه لمصالح كل الأطراف.

شارك

مقالات ذات صلة