آراء
في يوم هادئ فوق سماء الدوحة، لم يكن أحد يتوقع أن تلوح في الأفق رائحة بارود وانفجارات من بعيد بعد لحظات. فالمدينة التي عُرفت بالسلام والوساطة الدولية، استيقظت على خبر استهداف إسرائيلي لأحد المقرات السكنية، في محاولة غادرة لتحويلها إلى ساحة صراع جديد. لم يكن الحدث مجرد طائرة أو صاروخ أو محاولة اغتيال لعناصر من حماس في الدوحة، بل كان أشبه برسالة مكتوبة بالنار تقول: “لا خطوط حمراء عند هذا الكيان، حتى العواصم الوسيطة يمكن أن تكون هدفًا”.
لكن هنا يجب أن نطرح سؤالًا ملحًّا ونكون صادقين مع أنفسنا كعرب: هل إسرائيل هي العدو الحقيقي الذي يخطط ويمكر ويستهدف وحده، أم أنها مجرد أداة بيد منظومة أكبر؟ هل هناك مظلة شريرة نسجت خيوطها القوى العظمى منذ زمن بعيد ترعى الكيان وجنونه؟ إننا حين نتأمل في نشأة هذا الكيان، ندرك أن ما جرى في الدوحة ليس معزولًا، بل حلقة ضمن سياق تاريخي طويل من الرعاية الأجنبية لمشروع الاحتلال.
الحقيقة أن إسرائيل وُلدت من رحم الوعد البريطاني الشهير، وعد بلفور، الذي لم يكن مجرد ورقة سياسية، بل كان بذرة كيانية غُرست في جسد الأمة العربية. بريطانيا آنذاك لم تكتفِ بفتح أبواب الهجرة لليهود، بل وضعت فلسطين تحت انتدابها لتكون الأرض المطواعة التي يُزرع فيها الكيان. لم يكن المشروع إذن صناعة يهودية خالصة، بل مشروعًا استعماريًا بامتياز، هدفه تقسيم المشرق وإضعافه وزرع خنجر في خاصرة العرب.
وحين غربت شمس الإمبراطورية البريطانية وذهبت أيام سعدها، لم يُترك الكيان لمصيره وحده، بل انتقلت الرعاية بسلاسة إلى القوة الصاعدة آنذاك: الولايات المتحدة الأمريكية. فمنذ اللحظة الأولى، تبنّت الولايات المتحدة الكيان بالكامل واعتبرت نفسها المظلة التي تتحرك تحتها ممارساته العدوانية. منحت مليارات المساعدات، وحمته بفيتوهات متكررة في مجلس الأمن، وزوّدته بأحدث الأسلحة، وجعلت منه خط دفاع متقدمًا عن المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.
يا أصدقائي العرب، إن الدلالات كثيرة، والأدلة أوضح من أن تُنكر. فكل حرب خاضتها إسرائيل لم تكن لتصمد فيها لولا الجسر الدعائمي الأمريكي، وكل مجزرة ارتكبتها لم تكن لتمر لولا الغطاء السياسي القادم من واشنطن. وهكذا نفهم أن الاحتلال ليس سوى وجه من وجوه الهيمنة الأمريكية، وأن الكيان جزء من هندسة كبرى لإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق إرادة الغير.
المشكلة الكبرى إذن ليست فقط في “العدو المعلن” المسمى بالكيان الإسرائيلي، بل في فقدان السيادة العربية ذاتها. السيادة التي تحولت في كثير من الأحيان إلى لافتة تُرفع في المؤتمرات، بينما واقع الحال يكشف عن عواصم مكبلة ومقيدة، وقرارات مرهونة، وأنظمة تُسيّرها حسابات الخارج أكثر مما تعبّر عن إرادة الداخل. فحين تُستهدف الدوحة بصواريخ العدو، فإن السؤال ليس عن قدرتها على الرد العسكري، بل عن قدرتنا كأمة عربية على حماية عواصمنا، وعن معنى السيادة في زمن تتجاوز فيه الطائرات حدود الدول بلا رادع.
لقد جرّب العرب عبر عقود طويلة شعارات الوحدة والمزايدات والتحالفات الشكلية، لكن ما ينقصنا اليوم ليس الخطابات، بل مشروع عربي حقيقي يُعيد للسيادة موقعها الطبيعي. مشروع يقوم على شراكة حقيقية وتحالف صادق بين الشعوب العربية وأنظمتها، وعلى مصالحة داخلية تبني الثقة بدل الشك، وعلى استقلال اقتصادي يحرر القرار السياسي العربي من ابتزاز الخارج الأمريكي. وبدون هذه الأسس، سيبقى كل بلد عربي عُرضة للابتزاز أو للاستهداف، وسيبقى الأمن القومي العربي مرهونًا بمصالح قوى كبرى لا ترى فينا سوى أدوات.
لذلك أرى أن استهداف الدوحة يجب أن يكون جرس إنذار، لا لقطر وحدها، بل لكل العرب. لأنه يكشف أن أي عاصمة يمكن أن تصبح رهينة لجنون الاحتلال، وأن الغطاء الأمريكي يجعل هذا الجنون ممكنًا بلا حساب.