سياسة
حين سُنّ القانون رقم ١٦٤ لسنة ٢٠٢٥، قدّمته الحكومة باعتباره “تصحيحا تاريخيا” و”إصلاحا اجتماعيا” طال انتظارهم. لكن شبكة واسعة من المصالح بعيدًا عن لغة البرلمان وبيانات الوزراء تستعد لحصد المكاسب. فبينما يواجه ملايين المستأجرين المجهول، وتُخيَّر الطبقة الوسطى بين الإخلاء أو الترحيل إلى الضواحي، يقف على الجانب الآخر مستفيدون كبار: شركات التطوير العقاري، والصندوق السيادي المصري، واستثمارات خليجية تنتظر الفرصة وجميعهم يطمحون لاقتناصها باسم ”التطوير“ سيء السمعة في مصر مؤخرا. والسؤال: هل نحن أمام إصلاح يوازن بين الحق في السكن والحق في الملكية، أم أمام عملية استحواذ مقنّعة تهدف للجباية وبيع القاهرة الأصلية لاستثمارات الخليج ومشاريع السيادة ممثلة في صندوقها السيادي في قلب المدن؟
المطورون الكبار: شهوة التوسع في قلب المدينة
منذ سنوات طويلة، يسعى المطورون العقاريون الكبار إلى موطئ قدم داخل القاهرة التاريخية والإسكندرية. لم تكن رغبتهم في أطراف العاصمة الإدارية أو المدن الجديدة فقط، بل في الأحياء العريقة التي تحمل قيمة اقتصادية ورمزية لا تعوّض: وسط البلد، الزمالك، جاردن سيتي، بولاق، المعادي القديمة. هذه الأحياء، التي عاشت عقودًا تحت نظام الإيجار القديم، تُعد اليوم كنزًا حبيسًا. القانون الجديد حرّر هذا الكنز جزئيًا: إذ إن انتهاء المدد الانتقالية، سيُفرغ آلاف العيون المستأجرة من ساكنيها، أو سترتفع إيجاراتها إلى مستويات لا يستطيع غالبية المستأجرين تحمّلها. هنا يتدخل المطور الكبير: يشتري العقار أو يحصل على حق تطويره، ثم يعيد بيعه أو تحويله إلى مشروع استثماري. التجربة ليست فريدة أو مستحدثة. شركات كبرى مثل طلعت مصطفى، سوديك، بالم هيلز، وحتى شركات أصغر ذات علاقات وثيقة بالدولة، أبدت اهتمامًا متكررًا بعقارات ومباني وسط البلد التي يعد بعضها أثريا في طراز معمارها. التحوّل المخطط واضح: من أحياء مختلطة يعيش فيها موظفون وفنانون وطلاب ( قوام الطبقة الوسطى البورجوازية) ، إلى مناطق مخصصة لمكاتب الشركات، الشقق الفاخرة، والمولات التجارية. هذا التحول يعني عمليًا إزاحة سكان الطبقة الوسطى والدنيا، وتحويل المدينة إلى سلعة معروضة للبيع، بصيغة أدق، تسليم التاريخ العمراني وتجريف العمران البشري للقاهرة القديمة.
الصندوق السيادي: الوسيط الذي يتحوّل إلى مالك
الصندوق السيادي المصري، الذي قُدّم للجمهور باعتباره أداة لحماية الأصول وتنميتها، صار اليوم لاعبًا محوريًا في مشهد العقارات. فبدلًا من أن يكون مجرد “صندوق استثماري”، أصبح أشبه بـ “المطور الأكبر”، يشتري العقارات بعد الإخلاء أو حتى قبل، ويدخل بها في شراكات مع شركات خليجية أو محلية. يمتلك الصندوق أذرعًا عقارية مثل شركة City Edge، ويملك سلطة غير متاحة للقطاع الخاص العادي؛ إذ إن قدرته على الحصول على أصول من الحكومة بأسعار منخفضة، وإعادة طرحها بصفقات ضخمة. بهذا المعنى، لا يصبح الصندوق وسيطًا محايدًا، بل طرفًا رئيسيًا في عملية إعادة توزيع الثروة العقارية. الخطاب الرسمي يصوّره كحامٍ للحق العام، بينما في الواقع يمارس دور “مدير التحوّل”: ينقل الأصول من يد المواطنين (مستأجرين أو حتى ملاك صغار) إلى يد رأس المال الكبير، المحلي والأجنبي.
الاستثمارات الخليجية: المال ينتظر لحظة الدخول
ليست الصدفة وحدها أن القانون الجديد صدر في لحظة عطش خليجي واضح للأصول المصرية. الإمارات والسعودية خصوصًا، استثمرتا بالفعل في العقارات والفنادق التاريخية. من شراء مبانٍ كاملة في وسط البلد عبر صناديق أبوظبي، إلى استحواذات سعودية على فنادق الإسكندرية، كانت هناك مقدمة واضحة. الآن، ومع تصفية الإيجارات القديمة، تصبح الفرصة أكبر: أحياء كاملة قابلة للتفريغ وإعادة البيع. المستثمر الخليجي لا يبحث عن “حق السكن” أو “العقد الاجتماعي”، بل عن عائد استثماري مضمون: موقع مركزي + سعر رخيص + إعادة تسعير هائلة.
الخاسرون: المستأجرون، الملاك الصغار، والطبقة الوسطى في المقابل، من يدفع الثمن؟
أولا المستأجرون؛ إذ تواجه آلاف الأسر خطر الإخلاء. “الوحدة البديلة” غالبًا ستكون في أطراف المدن الجديدة، بعيدًا عن أماكن العمل والمدارس. ثانيا الملاك الصغار؛ صحيح أن بعضهم سيستفيد من رفع الأجرة، لكن كثيرين سيجدون أنفسهم مضطرين لبيع أملاكهم بأسعار منخفضة، خاصة حين يعجزون عن الدخول في مفاوضات مع مطورين كبار أو الصندوق السيادي. ثالثا ستكون الطبقة الوسطى الخاسر الأكبر. هذه الطبقة التي حافظت على ملامح المدينة لعقود، ستُقصى قسرًا من قلب القاهرة والإسكندرية، لتفسح المجال لمشاريع تجارية وسياحية.
الأثر العمراني والاجتماعي: من مدينة للناس إلى مدينة للاستثمار
ما يجري ليس مجرد تعديل قانوني، بل إعادة صياغة للمدينة نفسها. • أحياء سكنية قديمة كانت تحتضن تنوعًا اجتماعيًا وثقافيًا، ستتحول إلى مناطق “نخبوية” أو تجارية. • شبكات الجيرة التي صمدت لعقود ستتفكك. • القاهرة، التي كانت مدينة يعيش فيها موظف حكومي بجوار طبيب بجوار فنان، ستتحول إلى مدينة مخصخصة: كل حي لفئة، وكل شارع يُقاس بالعائد الاستثماري لا بالحياة اليومية. الإسكندرية أيضًا لن تنجو: أحياؤها الساحلية القديمة ستتحول تدريجيًا إلى مشاريع سياحية تخدم رأس المال أكثر مما تخدم سكانها.
خلاصة: بين الإصلاح والاستحواذ
يُسوّق القانون ١٦٤ لسنة ٢٠٢٥ كخطوة إصلاحية، لكن النظر إلى خريطة المستفيدين يكشف بوضوح أن الأمر يتجاوز “العدالة الاجتماعية”. فبينما يخسر ملايين الناس استقرارهم، يستعد رأس المال الكبير لاقتناص أصول عقارية لا تقدّر بثمن. السؤال الذي يظل معلقًا: هل كانت نية الدولة إصلاح علاقة مختلة، أم كانت تدير عملية استحواذ مقنّعة؟ الإجابة، كما هو الحال دائمًا، لن تأتي من البرلمان أو خطابات الوزراء، بل من مصير الناس في الأحياء: من سُيخرج من بيته، ومن سيضع لافتة “For Sale” على عمارة قديمة، ومن سيبني برجًا زجاجيًا مكانها. لا يستقيم مشروع بحجم المستفيدون الكبار من تصفية قانون الإيجار القديم . العوار الدستوري والقانوني في قانون ١٦٤ لسنة ٢٠٢٥ تحليل قانوني نقدي القانون الجديد يحمل في طياته عوارًا دستوريًا وقانونيًا جسيمًا يجعله مرشحًا للطعن الدستوري، مما يعني استمرار الأزمة القانونية لسنوات قادمة. يتجلى العوار الدستوري الأول في انتهاك مبدأ تدرج القوانين، حيث يخالف القانون روح الدستور في حماية حق الملكية المكفول بالمادة ٣٥، ويتعارض مع مبدأ العدالة الاجتماعية المنصوص عليه في المادة 8. كما يتجاهل القانون التوجيهات الصريحة لحكم المحكمة الدستورية العليا، ولا يحقق التوازن المطلوب دستوريًا بين حقوق المالك والمستأجر. يظهر العوار الثاني في البنية القانونية للقانون نفسه، حيث ينص على زيادة القيمة الإيجارية سنويًا بنسبة ١٥% بصفة دورية دون أساس علمي أو اقتصادي معتبر. هذه النسبة محددة تعسفيًا ولا تراعي المتغيرات الاقتصادية الحقيقية أو معدلات التضخم الفعلي، كما تفتقر لآلية مراجعة دورية مرنة تضمن التوافق مع الظروف الاقتصادية المتغيرة. يتفاقم الوضع بضعف الضمانات الإجرائية في القانون، حيث تغيب آليات التظلم الفعالة وتنعدم المعايير الواضحة لتقدير القيمة الإيجارية العادلة. هذا النقص في الحماية الإجرائية يجعل القانون عرضة للتطبيق التعسفي، مما يخل بمبدأ سيادة القانون المكفول دستوريًا. يعاني القانون أيضًا من غموض النصوص وعدم وضوح آليات التطبيق في الحالات الاستثنائية، فضلاً عن غياب تعريف دقيق للقيمة الإيجارية العادلة. هذا الغموض التشريعي يفتح الباب واسعًا أمام التأويلات المتضاربة والنزاعات القضائية، مما يؤدي إلى مزيد من عدم الاستقرار القانوني. يُعد محاولة القانون التحايل على أحكام المحكمة الدستورية العليا بطرق تقنية مصطنعة أحد أخطر العيوب القانونية فيه. بدلاً من معالجة الجوهر الدستوري للمشكلة، يحاول المشرع تفادي الحكم الدستوري بآليات ظاهرية لا تمس جوهر العوار المنصوص عليه في الحكم. تكشف المقارنة مع القوانين السابقة استمرار النهج المعيب نفسه، حيث يتبع القانون الجديد النهج الشعبوي في التركيز على كسب الرأي العام دون دراسة قانونية عميقة، ويتجاهل التوازن الاقتصادي المطلوب، ويطرح حلولاً ترقيعية مؤقتة بدلاً من الإصلاح الجذري. كما يفتقر لأي تأصيل دستوري راسخ يضمن استدامته وفعاليته. يتطلب الإصلاح الحقيقي لمنظومة الإيجار في مصر إعادة صياغة شاملة تبدأ بوضع نص دستوري واضح ينظم العلاقة الإيجارية، مع تحديد المبادئ العامة للتوازن بين أطراف العلاقة الإيجارية. كما يحتاج الأمر لآليات حماية فعالة تضمن حق التقاضي وتوفر آليات تحكيم سريعة للنزاعات الإيجارية. على المستوى التشريعي، يستدعي الأمر إلغاء جميع القوانين السابقة والبدء بقانون شامل جديد ينظم جميع أنواع الإيجارات، مع وضع آليات مرنة تربط الزيادات بمؤشرات اقتصادية حقيقية وتضع حدودًا دنيا وعليا للحماية الاجتماعية.
خلاصة التحليل القانوني تؤكد أن قانون رقم ١٦٤ لسنة ٢٠٢٥ يمثل استمرارًا للنهج المعيب في التعامل مع قضية الإيجار القديم. فهو يحمل عوارًا دستوريًا واضحًا يتمثل في مخالفة روح الدستور وأحكام المحكمة الدستورية العليا، ويفتقر للتوازن القانوني المطلوب بين حقوق أطراف العلاقة الإيجارية، ويكرر أخطاء القوانين السابقة دون تعلم من الدروس التاريخية، كما يفتقر للأسس العلمية في تحديد الآليات والنسب المطبقة. النتيجة الحتمية لهذا العوار القانوني هي أننا أمام قانون قابل للطعن دستوريًا، ومرشح للإلغاء مثل سابقيه، مما يعني استمرار الأزمة القانونية والاجتماعية لعقود قادمة، وضرورة العودة مجددًا لمربع البحث عن حل تشريعي حقيقي يحترم الدستور ويحقق العدالة الاجتماعية.