فكر
الكاتب: عبد الله بشار
تُعدّ اللامركزية الإدارية من أبرز النماذج الحديثة في إدارة الدول، وهي تقوم على إعادة توزيع جزء من صلاحيات الحكومة المركزية إلى هيئات محلية كالمحافظات أو البلديات أو المجالس المنتخبة. الفكرة الأساسية ليست في تقويض الدولة أو تفكيكها، بل في جعلها أكثر قرباً من المواطن وأكثر مرونة في التعامل مع حاجاته اليومية.
ورغم أن مبدأ اللامركزية يبدو للوهلة الأولى جذاباً وبديهياً، فإن تبنّيه على أرض الواقع يفتح الباب لنقاش واسع: هل يساهم فعلاً في التنمية والعدالة، أم يتحول إلى عبء إضافي على الدولة ويؤدي إلى إضعاف سلطتها المركزية؟
فرنسا: عرفت تاريخياً بمركزيتها القوية، لكنها شرعت منذ سبعينيات القرن الماضي إصلاحات منحت الأقاليم والبلديات صلاحيات ملموسة في مجالات كالتعليم والنقل والتنمية.
إسبانيا: اعتمدت نموذجاً متقدماً جداً، حيث أصبحت بعض الأقاليم مثل كاتالونيا والباسك تمتلك برلمانات محلية وحكومات خاصة بها، مع لغاتها الرسمية ونظام تعليمي خاص.
ألمانيا: مثال على الفدرالية الناجحة، حيث تتمتع الولايات (Länder) بصلاحيات دستورية واسعة في التعليم والشرطة والضرائب المحلية، ضمن وحدة الدولة الاتحادية.
الأردن: سعى في السنوات الأخيرة لتجربة اللامركزية عبر إنشاء مجالس المحافظات ومنحها دوراً أكبر في تحديد المشاريع التنموية المحلية.
تركيا: اعتمدت نموذجاً وسطاً؛ فهي ليست دولة فدرالية، لكن البلديات الكبرى (مثل بلدية إسطنبول) تملك صلاحيات واسعة نسبياً في التخطيط العمراني والخدمات. ومع ذلك، يلاحظ أن الدولة التركية تحافظ على مركزية قوية خاصة في القضايا السياسية والأمنية، وهو ما يعكس الحذر من توسّع صلاحيات قد تُستغل سياسياً، كما في حالة ملف الأكراد ومطالب بعض مناطق الجنوب الشرقي.
رغم مزاياها، فإن اللامركزية ليست حلاً سحرياً. هناك عدة إشكاليات تبرز في التطبيق:
ضعف الموارد المحلية: إذا لم تترافق الصلاحيات مع ميزانيات حقيقية، تصبح المجالس المحلية عاجزة عن تنفيذ وعودها.
الفوارق بين المناطق: بعض المناطق قد تكون متقدمة أكثر من غيرها، فتستفيد من اللامركزية، بينما تبقى المناطق الأفقر متأخرة، مما يزيد من فجوة التنمية بدل أن يقلّصها.
مخاطر سياسية: في بعض الدول، الإفراط في منح الصلاحيات ما قد يفتح الباب أمام نزعات انفصالية، كما هو الحال مع كاتالونيا في إسبانيا أو المسألة الكردية في تركيا.
الرقابة والمساءلة: بدون وجود نظام رقابي فعال، قد تتحول السلطات المحلية إلى مراكز جديدة للفساد والمحسوبية.
اللامركزية الإدارية هي أداة وليست غاية، إذ يمكن لها أن تكون وسيلة ناجعة لتحقيق التنمية المتوازنة، وتخفيف البيروقراطية، وتعزيز المشاركة الشعبية، وفي المقابل، قد تتحول إلى عبء على الدولة إذا لم تُدعّم بآليات تمويل ورقابة، أو إذا أسيء استخدامها سياسياً.
وعليه، فإن تجربة كل دولة مع اللامركزية مرتبطة بظروفها الخاصة ففي فرنسا وألمانيا مثلاً، عززت اللامركزية التنمية والديمقراطية، بينما في إسبانيا وتركيا أفرزت تحديات مرتبطة بالهويات المحلية والنزعات القومية.
الخلاصة اللامركزية يمكن أن تكون جسراً نحو مزيد من الفعالية والوحدة، أو قد تصبح باباً للتشتت والتنازع. والفرق بين النتيجتين لا تحدده النظرية بقدر ما تحدده البيئة السياسية والاجتماعية وقدرة الدولة على إدارة التنوع.