آراء

استقلالٌ جوهره استعمار: مصر نموذجًا!

سبتمبر 6, 2025

استقلالٌ جوهره استعمار: مصر نموذجًا!

للكاتب: حمزة مأمون

 

 

تستعصي الأحداث التاريخية المتعلقة بصمود المصريين أمام الحملة الفرنسية على مصر، ومن بعدها استعمارها من قبل الإنجليز، على فهم الكثيرين. ففي حقبة المماليك؛ تمثلت معظم وظائف الأمة في إحدى الجماعات الوسيطة، فالجماعات العلمية والدعوية والتربوية في شيوخ الأزهر، وتمثلت الجماعات الاقتصادية ببنية الوقف المتغلغلة في المجتمع. قام هذا المجتمع بالصمود في وجه الغزو الفرنسي بعد سقوط قوة المماليك، بل واستطاع طرد الغازي الفرنسي في نهاية الأمر.

ولكن المثير للدهشة أن هذا المجتمع، بعد تعرضه لعملية تحديث ضخمة وشاملة على يد محمد علي باشا، قام فيها بمأسسة جميع هذه الجماعات، ودمجها داخل بنية الدولة القومية الوليدة، إلا أن هذا المجتمع الذي تم تحديثه، عندما تعرض لمحاولة غزو أخرى على يد الإنجليز، فشل فشلًا ذريعًا في المقاومة، وتم استعماره لمدة تزيد على 70 عامًا، بل ما زال مستعمرًا حتى الآن!

تأخذنا هذه المفارقة ما بين الاستعمارين، الفرنسي والإنجليزي، إلى مفهوم “النطاق المركزي” لكارل شميت؛ والذي تتلخص فكرته في وجود نطاق فكري مركزي تُفسَّر بناءً عليه الأحداث والوقائع في مرحلة ما، وإذا ما حُلَّت مشاكله حُلَّ معها سائر المشاكل الثانوية. ففي الوقت الذي كان الدين هو النطاق المركزي، كانت التنشئة الإيمانية، وقيم الجهاد، ومفهوم الأمة هي الشغل الشاغل لجميع القطاعات.

تحول الأمر بشكل جذري في نموذج الدولة القومية؛ حيث أصبح بقاء الكيان السياسي، هو النطاق المركزي؛ لذا يمكن تجميد أي نشاط للأمة، في سبيل الحفاظ على الدولة وتماسكها، بل يمكن التضحية بأي جزء من الأمة في مقابل الحفاظ على وجود الدولة أيضًا!

 

1 – الأمة المصرية

وعلى ذكر مصطلح “الأمة”، فالأمة في قاموسنا تعني اصطلاحًا أمة المسلمين جميعهم، إلا أنه في فترة الحملة الفرنسية على مصر، استخدم نابليون مصطلح “الأمة المصرية” مخاطبًا به المصريين، وذلك في عام 1798، عندما كانت الحملة الفرنسية في طريقها إلى مصر.

كان استخدام هذا المصطلح بمثابة البذور الأولى لاستقلال مصر، ليس عن مستعمرها؛ بل عن أخواتها في المنطقة. سبق هذا المنشور بثلاث سنوات، موجة شعبية معادية للحكم العثماني/المملوكي في مصر، والتي أشعلت شرارة الثورة التي حاولت حملة نابليون (1798 – 1801) أن تستغلها، بلا طائل.

يذكر الكاتب نزيه الأيوبي في كتابه “تضخيم الدولة العربية”، استغلال محمد علي لهذه الموجة وركوبها، حيث استطاع بعد وصوله مصر بصفته ضابطًا عثمانيًا في السنة نفسها، أن يمتلك السلطة على أساس دعم شعبي، وفي العام 1805 تم اختياره واليًا على مصر.

 

2 – محمد علي باشا

عقب تعيينه واليًا على مصر، عمل على إلغاء نظام الالتزام في مصر، ونظام الالتزام كان ترتيبًا اقتصاديًا أيام المماليك وأكثر أيام العثمانيين، حيث يدفع الملتزم ضريبة عن قطعة أرض، ثم يعمل على جباية الضرائب من الفلاحين، وفي كثير من الأحيان كان للملتزم ملتزمون آخرون، يطلب منهم مبلغًا من المال عن قطعة أرض، ويلتزمون بجباية الضرائب أيضًا، وهكذا تكونت سلسلة من الملتزمين الجباة الذين ضاعت بسببهم عوائد الناتج عن الزراعة قبل وصولها خزينة الدولة.

احتكر محمد علي ملكية الأرض وجبايتها، وأصبح الفلاحون يدفعون ضرائب أقل ويصل الخزينة فائض أكبر، واستخدم محمد علي هذه الفوائض لبناء الدولة المصرية الحديثة، بضمان أن تكون لمصر درجة عالية من الاستقلال الذاتي إزاء السلطان العثماني.

ومع أن بيروقراطية حديثة من حيث المظهر تم بناؤها، فإن أسلوب محمد علي في مخاطبة موظفيه كان أسلوبًا استبداديًا ومهينًا (كانت كلمة «خنزير» أحد النعوت المفضلة التي كان يسبغها على الموظفين الذين كان يكتشف قصورهم!). كان محمد علي يعمل على إنشاء دولة مصرية حديثة قوية؛ ومصريين ضعفاء!

 

3 – معاهدة لندن، واحتلال مصر

اختلف محمد علي مع السلطان في إسطنبول على ضم ولاية الشام له، فتدخل الأوروبيون بينهما بما يضعف الطرفين، ونتيجة لذلك، وُقعت معاهدة لندن عام 1840، التي تمت بين الدولة العثمانية وأربع دول أوروبية؛ للحد من توسعات محمد علي على حساب الدولة العثمانية والتي أيضًا كانت سببًا في تقليص صلاحياته. وبهذا، ما كان لغة وأسماء في منشور نابليون؛ أصبح قانونًا دوليًا في تلك المعاهدة.

كان من شروط معاهدة لندن، أن يقوم محمد علي بإنهاء نظام احتكار الأرض، فيمتلكها الأفراد لا الدولة، وأصبحت فوائض الزراعة تودع في المصارف الأوروبية، ومن أكبرها بيت مال روتشيلد. وقد خلقت هذه العملية طبقة من مُلاك الأراضي شديدي التبعية الأوروبية، بينما هم مستقلون نسبيًا عن الخديوية آنذاك، ومُلاك الأراضي هم من سيشكلون قادة مصر في أوائل القرن العشرين، وكما اخترعت معاهدة لندن “وطنًا” سيخترع مُلاك الأراضي هؤلاء “وطنيةً” تقضي بأن تحارب مصر تركيا وتتحالف مع بريطانيا!

وأصبحت فيما بعد الحكومة الخديوية تستدين المال من بيت مال روتشيلد، المودع فيه مال المصريين أصلًا. كانت هذه الأزمة المالية هي التي سهلت، تحت غطاء الإشراف على سداد الدين العام، على القوى الأوروبية إجبار مصر على إعطاء الضباط الأوروبيين عددًا ضخمًا من الوظائف السيادية للدولة المصرية. ولقد كان هذا التدخل واحدًا من الأسباب الرئيسية وراء ظهور حركة أحمد عرابي الوطنية في العام 1881، التي كانت بدورها الحدث الرئيسي الذي جعل البريطانيين يتحركون إلى داخل مصر ويحتلونها في السنة التالية 1882.

 

4 – اللورد كرومر

من ضمن الوظائف السيادية للدولة المصرية التي أُعطيت للضباط الأوروبيين، كانت وظيفة المراقب المالي، والتي شغلها اللورد إيفرين بارنج، المعروف في تاريخ مصر باللورد كرومر، والذي أصبح فيما بعد مندوبًا بريطانيًا على مصر. كتب هذا اللورد كتابًا وضع فيه خلاصة آرائه بشأن مصر، أسماه “مصر الحديثة” ويقول فيه:

“كل ما يتعين عمله هو أن نخلف ورائنا حكومة جديدة وقوية – بل ومستقرة – أولًا وقبل كل شيء، وقادرة على تلافي الفوضى والإفلاس، وبذلك نستطيع منع المسألة المصرية من أن تصبح سببًا خطيرًا من أسباب خلق المتاعب لأوروبا. ولضمان استقرار هذه الحكومة، يجب أن يكون لديها قدر من حرية العمل، حتى وإن استعملت هذا القدر من الحرية بطريقة لا تتفق دومًا مع وجهات نظرنا. لكن من الضروري على الحكومة، أن تتصرف بشكل عام وفق مبادئ تتفق مع المتطلبات العامة للحضارة الغربية. وإنه لمن السخرية افتراض أن أوروبا ستكون متفرجًا سلبيًا في حال تشكيل حكومة رجعية في مصر، تؤسس على مبادئ إسلامية خالصة، وأفكار شرقية عتيقة وبالية.”

إن مشكلة كرومر مع “الأفكار الشرقية” و”المبادئ الإسلامية” في أن هذه الشرقية والإسلامية توحد مصر مع محيطها، فتجد بريطانيا العظمى دولة عظمى ممتدة من وسط آسيا حتى حدود المغرب الأقصى. وهي، عوضًا عن ذلك، تجعل من مصر دولة كالعلبة، أو كسرير الحداد الأسطوري “بروكرست”، الحداد الذي كان ينيم الناس على سرير من حديد؛ فإن كانوا أطول منه قطع أطرافهم، وإن كانوا أقصر منه خلع أكتافهم حتى يصيروا على قياسه.

 

5 – تحالفٌ بين المستعمِر والمستعمَر

ظل الاحتلال البريطاني لمصر حتى أصدرت بريطانيا الإعلان الأحادي عام 1922، ثم المعاهدة المصرية الإنجليزية 1934، التي شكّلت تحالفًا عسكريًا بين طرفيها، وسُميت رسميًا “معاهدة الصداقة والتحالف”، تحالفٌ بين المستعمِر والمستعمَر! وبهذا ستسلك الدولة “المستقلة” التي أنشأها الاستعمار سلوك المستعمرة، بل أن سلوكها كمستعمرة سيكون شرط استقلالها أصلًا، وتصبح الدولة المستقلة سلاسل من جوع وخوف تقسم الأمة. وإذا كانت هذه حال أكبر البلاد العربية في حينها، فلك أن تتخيل ما حال غيرها

 
شارك

مقالات ذات صلة