Blog
لم تكن حادثة اغتيال الفاروق أبو بكر علاء عدنان أيوب، الأولى في مناطق ريف حلب، أو المناطق المحررة قبل سقوط الأسد. بل منهجية الغدر والاغتيالات التي طالت عدداً من ثوار وقياديي الثورة السورية صارت أداة انتقام فاعلة لتصفية مشاكل وحسابات ثأرية، ربما سببها الأول الاختلاف بالرأي.
شهدت مناطق الشمال السوري المحرر، من إدلب وصولاً إلى مدينة مارع في ريف حلب، حوادث متكررة طالت نشطاء في المجال الصحفي، المدني، السياسي. ولعل أبرز ساحات الاغتيال تلك التي استهدفت قيادات عسكرية لها وزنها في المشهد العسكري.
وهنا نسترجع تاريخ 9/ 9/ 2014، في قرية رام حمدان التي تتبع لناحية معرة مصرين، حيث تم تسجيل أعقد عمليات الاغتيال في هذه القرية: اغتيال جماعي لقادة الصف الأول في حركة أحرار الشام الإسلامية. إذ في حينها كانت تمثل الحركة أقوى التجمعات العسكرية المنظمة من ناحية السلاح، والفكر، وتوزعها الجغرافي على الأراضي السورية. تم تفجير المقر الذي عقد فيه الاجتماع بعبوة ناسفة، فيها غاز سام، وهذا بحسب ما جاء في تقارير عدة تناولت الحدث. كان المقر صفر محصناً بشكل كبير، ومأمناً لمثل هذه التجمعات التي كانت تخشى استهدافاً -ربما- متوقعاً، أو الأقرب للاحتمالات، مثل استهداف مباشر من الطائرات الأسدية والروسية، أو سيارة مفخخة. لكن أن يكون الموت مصدره المقر صفر نفسه، فهذا ما جعل الخسارة تكون على المستوى الأول من صف مؤسسي الحركة وحاملي قواعدها. منهم أبو عبد الله الحموي (حسان عبود) أمير الحركة، وأبو يزن الشامي، وأبو حمزة شرقية، وأبو أيمن رام حمدان القائد العسكري للحركة، وكل من كان حاضراً.
تعددت أصابع الاتهام، فالعدو الأول نظام الأسد، لكنه لم يكن الأخير. إذ سجلت في تاريخ الحركة نقاط اشتباك واقتتال مع تنظيم الدولة الإسلامية داعش، حيث كفرت الأخيرة الحركة واعتبرتها جماعة مرتدة، وخلافاً سياسياً جهادياً شديد العداء، مع التصريح بذلك من خلال بيانات منتشرة.
ولتنظيم الدولة باع كبير في عمليات الاغتيال والاستهداف لكل من يخالفها الرأي. على هذا لم تحسم قضية اغتيال قادة حركة أحرار الشام الإسلامية حتى يومنا، والقائمون وراء هذا الحدث كثر. الحدث فاصل في تاريخ الثورة السورية، وسبب مهم من الأسباب التي غيرت موازين القوة العسكرية في سوريا.
بالنظر لتصاعد المجال الصحفي، المدني خلال سنوات الثورة، وما بعد سقوط نظام الأسد، برز دور النشطاء المدنيين أكثر وضوحاً وتأثيراً في نقل المشهد على حاله وحقيقته، مع محاولات مستمرة في تغيير واقع المناطق الخاضعة لسيطرة سلطات الأمر الواقع المتسلطة على مساحات مدنية.
ومع تراكم خبرات وتجارب للنشطاء، وامتلاكهم أدوات فاعلة في المجتمع المحلي والدولي، تزامناً مع هذا التراكم، كانت الفصائل المحلية تشتد غلواً بأيديولوجياتها، وتراكم خبرة وجرأة عسكرية. مما يشكل صورة ثنائية: الطرف الأول مترصد واع لكل أعمال وقرارات الفصيل المحلي، والطرف الثاني متجاوز للمساحة المدنية، ضارب عرض الحائط بكل سبل الحوار، أو إيجاد هوامش للتفاهم تجنب وقوع اعتقالات، انتهاكات، واغتيالات.
رائد الفارس، حمود جنيد، من أشهر نشطاء مدينة كفرنبل في حراكها السلمي ومظاهراتها الشهيرة، المعروفة بلافتاتها التي تركت أثرها اللغوي والفكري في السردية السورية. حمود ورائد، اسمان تجاوزا حدود مدينتهما كفرنبل، وكانا الصوت والصورة للثورة السورية، ونموذج الناشط الصحفي الحالم، والحامل لهموم أهله في المحافل الدولية.
تعرض رائد الفارس لمحاولة اغتيال عام 2014، واعتقل مرتين من قبل جبهة النصرة (هيئة تحرير الشام) لطبيعة نشاطه الصحفي. كان الفارس مديراً لراديو فرش، والذي هاجمته النصرة عام 2016.
تم اغتيال الفارس وحمود جنيد عام 2018، في مدينة كفرنبل، بعد خروجهما من صلاة الجمعة، على يد مسلحين أطلقوا النار عليهما، وتم اتهام جبهة النصرة بشكل مباشر، بناء على عدائها السابق لرائد، واعتقالات وتهديدات واضحة بقتله.
على مثل عادته اليومية، خرج بلال كريم المعروف بعمر الدمشقي من منزله، قاصداً مخيماً قريباً من مكان إقامته في ريف إدلب سرمدا. كان عمر وبشكل اعتيادي يقوم بتوزيع مادة الخبز على تجمع للمخيمات العشوائية. لكن ما جرى بتاريخ 17/ 6/ 2019 لم يكن اعتيادياً أبداً؛ إذ تم استهداف بلال كريم من خلال زرع عبوة ناسفة في سيارته. على إثرها نقل إلى الجانب التركي لتلقي العلاج، لكنه وبعد أيام فارق الحياة بعملية اغتيال مباشرة. كانت خلية لداعش، متخفية في أرياف إدلب، وراء عملية اغتيال الناشط الصحفي والإنساني عمر الدمشقي.
لم تبتعد الفصائل العسكرية التابعة للجيش الوطني كثيراً عن منهجية الاغتيالات لنشطاء المنطقة. فقد أطلق مسلحون النار على الناشط محمد عبد اللطيف أبو غنوم وزوجته الحامل، وذلك في مدينة الباب في ريف حلب الشرقي، بتاريخ السابع من تشرين الأول 2022.
وبحسب محكمة الجنايات العسكرية في مدينة الراعي، صدر حكم الإعدام على قتلة الناشط أبو غنوم وزوجته. ومن بين الجناة قائد لواء في فرقة الحمزات التابعة للجيش الوطني. لم تكن عملية اغتيال الناشط أبو غنوم الانتهاك الأول المنسوب إلى فصيل الحمزة، بل هو حلقة في سجل طويل من عمليات الاغتيال والقتل تحت التعذيب والاعتقالات التعسفية.
بعد صدور الحكم، تم الضغط على المحكمة العسكرية بمحاولات عديدة لإيقاف الحكم، مما أدى إلى استنفار الشارع الثوري، واندلاع احتجاجات رافضة لأي محاولة تؤجل أو تلغي حكم الإعدام. وبسبب تبعية المنطقة الخاضعة لسيطرة فصائل الجيش الوطني للإدارة التركية المباشرة، والخارجة عن سلطة قوات الأسد، لم ينفذ الحكم تبعاً للحالة السياسية آنذاك. إذ كانت تصدر الأحكام دون تنفيذها، لوجود نظام الأسد ممثلاً عن الدولة السورية، وقوانين قضائية خاصة بحالات مثل الإعدام.
ومن الممكن، مع الحالة الجديدة في البلاد، ومع سقوط نظام الأسد، أن يعاد طرح القضية مرة أخرى للحصول على حق محمد وزوجته.
وفي سياق الحديث عن حالة ما بعد سقوط نظام الأسد، تتصدر عناوين الأخبار العاجلة والهامة عملية اغتيال القائد العسكري السابق في الجيش الوطني (الفاروق أبو بكر).
فقد جرت بتاريخ 17/ 8/ 2025، حين أطلق اثنان على دراجة نارية النار على علاء الدين أيوب المعروف بالفاروق أبو بكر في مدينة إعزاز، أثناء خروجه من جامعة حلب الحرة.
وقد صرح المتحدث الرسمي لوزارة الداخلية، نور الدين البابا، أن منفذ العملية سلم نفسه، واعترف بالقتل، وهو حازم عباس، نجل القيادي في لواء المعتصم أحمد عباس. ليأخذ المشهد صورة الثأر التقليدية، إذ اتهم الفاروق سابقاً بقتل أحمد عباس شقيق قائد لواء المعتصم. وسجن على ذلك. وقد حصلت حادثة مقتل أحمد على خلفية خلافات سياسية عسكرية حول قيادة لواء المعتصم، وتبعات مرتبطة بكيفية إدارة المنطقة وملف التعامل مع هيئة تحرير الشام.
وبالطبع، مقال واحد لا يكفي لذكر كل عمليات الاغتيال التي حصلت منذ اندلاع الثورة السورية. فتعدد الأيديولوجيات الساعية إلى فرض سيطرتها على المشهد السوري بالكامل، زاد من حدة الاغتيالات وانتشارها. ووجود داعش كعدو مدرب جيد لإقصاء المشهد من كل فصيل أو ناشط أو حتى مدني ينقل الحقيقة ويحاول التصدي لتمدد التنظيم، كان يعني مواجهة مصيره بالموت غدراً. وبضرورة حقيقة إجرام نظام الأسد، لم تبتعد أصابع الاتهام عنه.
لقد وصلت الثورة السورية إلى هدفها الأول: إسقاط نظام الأسد. وفي تصريحات متكررة لوزير الدفاع مرهف أبو قصرة حول حل الفصائل العسكرية لنفسها، واندماجها في الجيش السوري وقوى الأمن، نطرح أسئلتنا بعد سنوات من الدماء والفوضى: هل يعني حل فصيل ما لنفسه واندماجه بالدولة أن يرافقه تغيير في عقلية تعامله مع الخصم أياً كان؟
تبقى الأمنيات أقرب إلى الواقع مع أصوات لا تعرف الصمت. فكل الآمال بعدالة تحفظ الحقوق، وتحقن الدماء، وتقلل مخاوف الناشط من اغتيال قريب، لمجرد أصوات لن تسكن في وجه أي انتهاك.