سياسة
لم يمر أول أسبوع على دحر الدولة الأسدية في سوريا حتى صدر البيان الختامي عن مركز العمليات الأمريكي المُعرَّب، متنكراً باسم لجنة الاتصال الوزارية العربية. ازدحم اجتماع العقبة بدول وهيئات إقليمية ودولية: الدول العربية الحدودية مع سوريا ومصر والسعودية وقطر والإمارات والبحرين على الجانب العربي، والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا في الإطار الغربي، إضافة لأمين عام جامعة الدول العربية والممثلة العليا للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية والمبعوث الأممي لسوريا، والولايات المتحدة الأمريكية نفسها. من جانب آخر، ومع رفع شعلة النصر في دمشق، سارع العدو للانقضاض جواً وبراً على المقدرات العسكرية المغتنمة أو تكاد من قبل قوات الثورة، إضافة لمقدرات أخرى؛ فيما وصفه العدو بـ”أكبر عملية في تاريخ سلاح الجو الإسرائيلي”. يذكر أن بيان العقبة قد تلا عملية “سهم باشان” الراجية خلع مخالب استراتيجية محتملة لقوى الثورة.
بالنظر إلى الاجتماع من جهة، إذ خرج بتوصيات تلقفتها دوائر مختلفة بكونها وديعة أو غير عدائية (وإن كانت تحاول حصار واقع النصر عبر الدعوة لإنجاز قرار مجلس الأمن 2254)، ومن جهة أخرى بالنظر للعدوان الإسرائيلي الخاطف والاستراتيجي الذي عمل على إجهاض ولادة الدولة آخرَ الحملِ الشريف، يختلج في الذهن تساؤل عن الاستراتيجية الأمريكية في سوريا. فبين تاريخ معروف وحاضر غير مألوف، بأي عين تنظر الإمبراطورية وماذا تضمر؟ ينظر هذا النص في هدم الشرعية وتأليب المجتمع وإضعاف القرار السياسي واختراق المؤسسة.
لم يكد بدر يوم النصر يقبل على الأفول حتى تداعت أنباء الرفع الجزئي والمؤقت للحصار المفروض على الشعب السوري. يَرسخ في الذاكرة أن الحصار، أو ما يسميه اللسان السياسي المسنون في المحفل الإمبراطوري الراهن بالعقوبات، قد اشتد عند بزوغ فجر الثورة؛ وطال شعبها وقواها أكثر بكثير مما طال -عَرَضاً- الخنجر الأسدي الطاعن في جسد البلد. لحق القرار وسبقته حالة بين الخدر والتخبط في جناحي النخبة الأمريكية وداخل الأجنحة نفسها، بادياً على شكل إدلاءات رسمية وإفشاءات إعلامية وإسرارات لمؤسسات الإنباء ودوائر التفكير. اتضح من الإبحار في روافد الإدارة الأمريكية أن عقل المؤسسة استعاض عن رسم السياسة بتقديم المسايسة؛ ريثما تتضح صورة إدلب في دمشق، وريثما تنجِز مصانع السياسات الأمريكية استبدال ميكانيكيا التعاطي مع الأسديين بأخرى قيد التشكل لكيفية التعامل مع قوى الثورة على مشارف فلسطين.
لم يطل الوقت السياسي قبل أن يتدحرج المندوب السامي الأمريكي -بهيئة عربية- مسرعاً خطاه نحو العاصمة. اتسعت لغة الإدارة الأمريكية سريعاً لتضم مرادفات الثناء والمديح، وطُعّمت إنكليزيتها بترجمان ثقافي مطلع على سلم الطرب السياسي العربي. رُفعت تماثيل لغوية لنموذج التغيير الثوري في سوريا لكنها حُشيت بالعسل يقطر سُماً من ثقوب المفردات. فسوريا هي “النموذج الجيوسياسي الأمثل للتغيير الجذري” من جهة؛ وإدارتها، من جهة أخرى، تسير بـ”خطى ثابتة نحو السلام والازدهار” على طريق من “التسامح المتكامل”. وقع كلام سفير الأساطيل الأمريكية على سواحل شرق المتوسط كمفرقعات رأس السنة، مفرقعات زاهية اللون صاخبة الصوت، فجذب العسلُ المتفجرُ في السماء المتعبة الأنظارَ والمسامعَ، وقطرَ منه السم في ليل دامس ينعش لصوص العاطفة الشعبية وقتلة المشروع السياسي. لكن المندوب عاد ليقول، بعد الوقائع -مبيتة الأسباب- في السويداء، إن على الإدارة الجديدة أن تتكيف بسرعة كي لا تفقد “طاقة الكون التي كانت” تدعمها وأن عليها أيضاً أن تنضج وتغير نهجها؛ وكان ذلك من الكلام قليل الحظ في دوائر الإعلام فلم يُسمع جيداً في شوارع البلد المنكوب وجغرافيا انتشار سكانه في العالم. ولسائل -لا يفترض أن ممثلي الإمبراطورية يَصفّون الكلام- أن يسأل: أي سلام، وأي تسامح؟ وتكيف مع ماذا، ونضج من أي مرحلة؟
إن مديحاً أخوياً برتبة عناق بالأنياب وإن مَعْيَرَة للعقوبات برتبة إرخاء لحبل المشنقة يخلطان صورة الأدوار على مسرح الجبهات ويزرعان الشك في بستان اليقينيات. يخلق هذا الإطار مشكلاً هلامياً برتبة لغم سائل لا يسهل الإمساك به وتفكيك شكله ومضمونه. وبينما تتركز أعين قطاع وازن من عامة الناس على سطح الأمور وشكلها وتتربص خناجر اللئام والأعداء بكل خطوة ومضمونها، يغدو المسير السياسي مسيراً بين ألغام وتغدو الاستراحة السياسية استلقاء على أرض مسمومة.
هكذا، تعمل الإمبراطورية على هدم الشرعية بإظهار العناق وإبطان الافتراس، فكيف للمعتدي أن يعانق المعتدى عليه ببهجة إن لم يتفقا على العدوان؟ وتعمل أيضاً على تأليب المجتمع على قوى الثورة ودولتها المتشكلة عبر إظهار رفع الحصار وإبطان زرع الألغام، فمن يلام حين يظهر المعتدي بمظهر الوديع وحين يظهر المعتدى عليه بمظهر مضيع الفرص؟ وبين هذا وذاك تشد أمريكا حصارها وترخيه وتطيل عناقها وتقصره هادفة أن يتخدر رأس المشروع وأن يختلج جسده.
صقلت الثورة نفسها ومُحص أبناؤها وأدعياؤها وتفارز خصومها وأعداؤها؛ وغَرست تأمل عينيها عميقاً في جسد الجغرافيا والتاريخ ووصلت عاصمتها بعد أن بلغت شباب القلب وأربعين العقل. فكيف اختراق كتلة صماء تتسع لمحتاجيها وتستعصي على أعدائها؟
سنوات عجاف كان أن أنمت وزرعت وأُنبتت في الجغرافيا السورية كيانيات محلية ذات أبعاد استثمارية واستتباعية أجنبية. وبين لاعبين كثر محليين وإقليميين ودوليين ظُن أن القوى الثورية ظهرت كأقوى الضعفاء السوريين وأضعف الأقوياء من غير السوريين؛ إلا أنه إن أُخذ بعين الاعتبار أن من الضعفاء السوريين من يمثل ذنباً لأفعى انقلبَ الشق الأول من التمثيل على عاقبيه: كيانية أسدية مهزومة ومدحورة ارتد مركزها لأرياف الساحل مرعية أولاً إيرانياً وروسياً، وكيانية قسدية استولت على الجزيرة مرعية أولاً أمريكياً، وكيانية هجَرية تُنفخ فيها الروح الإسرائيلية؛ وكلٌّ يرفع من تحت بحوامل اجتماعية وازنة. ومع أن حيوية الكيانية الأسدية اختبرت وارتدت على عاقبيها في التمرد في الساحل، هبطت الطائرة الأمريكية تحمل الرأس القسدي في دمشق وأغارت الطائرة الإسرائيلية برأس حربتها الهجري في السويداء.
بالتوازي مع تأكيد الإمبراطورية المتكرر على ضرورة وحدة التراب السوري، دفع البيت الأبيض تجاه إنجاز نظام امتيازات داخل مؤسسة الثورة. اخشوشنت الحناجر المقنعة بوطنية سورية مطالبة باللامركزية السياسية، واستدمت الأصوات مطالبة بتعيين مختاريها في الأجهزة الأعمق في الدولة؛ واستقوت تلك الأفواه أو استرشدت بالسقف الأمريكي؛ فأصبحت وحدة التراب رديفة لإدماج كافة القوى -بما فيها الأسديين ومن يفضلونهم حين اشتداد الوطيس- في المؤسسة الثورية التي أجهزت على الدولة الأسدية. إلى ذلك، فقد أوردت تلك القوى مفردات تبدو للوهلة الأولى ملائمة لالتئام الجرح السوري العميق خلا مفردتين سياسيتين: العدالة للسوريين والصراع مع العدو، فماذا يعني هذا الغياب إن لم يعن أساساً وقبل كل شيء تحييد الدولة المتشكلة عن دور سوريا التاريخي المؤجل وتسريب جلادي المجتمع السوري ومرعييهم داخل مؤسسات الثورة.
هكذا، تعمل الإمبراطورية على إضعاف القرار السياسي الثوري واختراق المؤسسة عن طريق الإدماج، فأي قرار سيتولد عن دمج الأصيل مع الدخيل؟ وأي مؤسسة ستبنى بيد الضحية مع الجاني؟ وأما ما بدا من عذوبة الكلام عن التشبث بوحدة سوريا لم يكن سوى شراسة تمييع الثورة بإدماجها مع قوى أخرى لحصار الثورة من داخل مهدها واجتماعه البشري تمهيداً لاختراق صوانها الثوري والإطاحة بتراكمها وما راكمت من مأسسة.
على خلفية تهافت أنباء عن بناء برج باسم أمين مفتاح النووي الأمريكي، يخطر في البال دأب عدد من شباب الخنادق على استحضار هدم برج الإمبراطورية مطلع الألفية. فكيف يمرر بعض ممن مدحوا هدم البرج في أرض قاتلهم بناء برجه في أرضهم؟ بعد عقود من الإغارة كل أنواع الإغارة للنفي خارج الحياة والذاكرة، إغارة على شبان نفروا أصالة وكرامة على اختلاف تموضعهم على طيف المعتقدات والأفكار، يخرج الشبان رافعين الرأس بدحر أحد أعدائهم؛ ويغدق أحد أعدائهم مديحاً معسولاً برتبة ذم مسموم، فيردونه بوعد بناء بروح وعيد هدم. ولربما تتجلى، في نقطة الالتقاء المتصارع المتناقض هذه، نكتة يلقيها التاريخ.
لا تعاني الإمبراطورية من أوهام بخصوص الثورة وقواها، والتي هي في جانب من جذر المعنى كرامة الأصالة وأصالة الكرامة واشتداد عودها ضد غزاة هذه الأرض كلها وطغاتها، ولا تعاني نخبة الثورة من أوهام بخصوص أعدائها. لقد أخذ الصراع شكلاً آخر، إذ تكسرت محاولات تصفية الثورة فتعاظمت محاولات تمييعها، وفي كليهما محاولة وأدها داخل الحدود السورية. فأين أصابت الخطوة وأين أخطأت؟ حريٌّ أيضاً التفكير بإرادة سوريا، كما أشار منتصر للفكرة، في خضم التفكير بالإرادات وخلقها. تلك أحاديث أخرى؛ وبعض الورق تراب البلاد.