مدونات

في ذكرى كلمة الله التي كسرت الأغلال!

سبتمبر 2, 2025

في ذكرى كلمة الله التي كسرت الأغلال!

للكاتب: بلال وهب


في مثل هذا الأسبوع من مثل هذا الشهر قبل زهاء ١٤٠٠ عام أعلن الله كلمته من جديد، في استهلال هذا العربي الوليد!

كان العالم الإنساني يومئذ يسع رهطا من الخلق، يكابد بهم في حياةٍ حائرة الدليل، جائرةِ السبيل، تكاد تعد أعراقهم على اليد، لا ينظمهم في شئونهم نظام ولا تربطهم غاية، وكانت الولاية على الدنيا في ذلك الحين لنسل الروم الذين نالهم حظ الفسوق والترف، ومن خلفهم أعقاب الفرس الذين هدهم الطغيان والطمع، والناس عدا ذلك أوزاع وهمج، فنظر ربك إلى أمة من الناس اعتصمت بالصحراء من هذا الرغد والضيم، فاختارها لتهبط فيها رسالته، واختار منها محمدا لتبليغ هذه الرسالة الأخيرة!

كانت الجزيرة المجهدة معلقة بين الجور والرغد، الإنسان فيها فارغ من الشعور الإنساني من ناحية الطين، وخالٍ من السمو الإلهي من ناحية الروح، يغالب طبع السباع في الافتراس، مسرفٌ في البهيمية حتى جعل كل أنثى مباحة لكل ذكر، وفي المادية حتى اتخذ إلهه من الحجر والشجر، وفي الأنانية حتى قتل أولاده خشية إملاق، يحتقر الضعيف والفقير والعبد والمرأة، ويقدس شهوته وقبيلته وجسد القوي ومال الغني.


بين إيوان كسرى المترف، وبلاط قيصر الطاغي، ورمال الجزيرة التائهة، كان مهد العربي اليتيم يُهدهد في أرض مكة، رضيعا يتيما يفتح عينيه في بيت فقير، قد عزفت عنه كل الدنيا وكل المرضعات، حتى حملته حليمة لأنها لم تظفر آخر الأمر بغيره!

في كل مرة أنعم الفكر في يوم الإثنين القديم هذا وأنا مشدوه. كيف هيئته الأقدار، ليولد هذا الرجل الذي لن تكون بعده الأرض كما كانت قبله، إذ عقد ناصيتها بالسماء، وفتح لها بابا واسعا تعرج منه الأرواح، وكيف انقدحت أنوار الكون كله مشرقات على شعب بني هاشم، وفوق دار آمنة، تُعلن أن هذا المولود أتى بمعجزة خالدة تقول أول سطورها ” لا إله إلا الله” رباً إلهاً واحداً لا سجود لغيره، ولا إذعان لسواه، في ميثاق حرية مطلقة من كل ما سواه ومن سواه. ومع أول عين فتحها الوليد المبارك، أُقرت هذه الحقيقة المطلقة، فصرخت آلهة الشياطين تئن في أجواف الأصنام حول البيت أنين الهيبة والخيبة، وسبّحت أرواح الأنبياء من حول الكعبة تضرع بالحمد والثناء بختام النبوة، وقيام الدعوة مرة أخرى، في بيت أبيهم إبراهيم.

أنِس النبي أول أمره بالطبيعة من حوله، واعتكف في الغار والجبال وأقاصي مكة، حتى ملأته الرسالة، وخرج بعدها إلى قريش فرداً وحيداً وحده، لا يسنده سلطان، ولا يؤيده جيش، ولا يُمهد له مال، ليس بين يديه شيء من أسباب الأرض، فأنكر عليه السادة والأغنياء، وسلطوا عليه السفهاء الغلاظ، فتناولوه بأيديهم وألسنتهم وسيوفهم، لكنه حشد لهم مواهب الكمال الإنساني وفضائل النبوة، فظهر عليهم.


كانت العقيدة قبل محمد محتكرة بين أن تموت الروح أو يموت الجسد، وأن يحكم الله أو يحكم الإنسان، وأن يظهر الدين أو تظهر الدنيا، فعقد كل تلك النواصي، وربط الصلات بعضها ببعض، وقال للعالمين: لا بد من دين الله لدنيا الناس.

لكن وثنية قريش ما خشيت من دعوة النبي كما خشيت من تلك الحرية التي يدعو إليها!

وهذا لب الإسلام وأصل الرسالة، إذ لا قيمة لهذه الرسالة إذا كان نحر المرء مغلولا إلى ما سوى الله، وإذا تشابه الاستسلام للسلطان والجاه والمال والأنظمة، بالاستسلام لله، فما فائدة الرسالة، وما عمل النبي؟!

هذه مكة تُشابه بقية الأرض، قبل أن يهبط محمد من غار حراء حاملا معه كلمة الله، وهي تموج في طغيان عاسف يتحكم في الفرد، ويسيطر على الجماعة، يملك الأب على بنيه الموت بحكم الطبيعة، والسيد يفرض على عبده ما يهوى بمقتضى العرف، والملك يُخضع نفوس الشعب باسم السلطان، وكهنة المعابد والأديان والأصنام تنسخ عقولاً متشابهة بقوة الجهل، والناس عدا أولئك أتباعٌ وأوراعٌ وهمل.

فمن يُخلص كل هؤلاء غير محمد؟

وما يُصلح كل هذا سوى الحرية التي جاء يزكيهم بها إلى يوم الدين؟


هذا أول الإرث النبوي الذي كُتب له الخلود إلى يوم يُبعثون، وحين ينادي اليوم في الناس منادٍ يدعوهم إلى هذا الإرث ثم يُطفف لهم فيه، فلا يذكر مبتدأه من هذه الحرية فهو كذوب على محمد، غشاش على أتباعه، وهو أفحش كذبا حين يعظ الناس أنهم حتى لا يملكون ألسنتهم ليقولوا قالة عدل عند الظلم، أو تُرفع أصواتهم إذا جار عليهم ظلوم أو عدو، ثم هو أشدهم خسة حين يخبرهم أن تمام الدين والطاعة في أن يُسلموا عقولهم وأفئدتهم إلى رجل واحد، أنصفه القدر فجعله سلطانا عليهم أو حاكما فيهم.


هذه خيانة للرجل الكبير الذي اختصه الله ليضع عنهم هذه الأوزار والأغلال، وأولها أغلال العقل والنظر والفكر، وإذا كان خطابٌ – يزعم أنه ديني – لا ينافح عن أصل هذه الرسالة، وإذا كان حزب أو جماعة أو هيئة لا تسعى لتبليغ هذه الأمانة كما بلغها الشجاع الشهيد، فما أخف هذا الدين في النفوس، وما أقربه إلى الجاهلية، وما أشبه أمية حينها ببلال!

إن ذكرى مولد الحبيب هو ذكرى انطلاق الإنسانية كلها من أسر الأوهام، وطغيان الحكام، وسلطان الجهالة، وهو تذكيرٌ مع الذكرى المباركة بأن أساس الإسلام هو رفع الرأس، وأنه لا يمنح ظهور الخلق للحكام يجلدوها بالمجان حين يُعارضون! وحين تبعه الناس وبايعوه على الموت، كان ذلك في سبيل أن تبقى هذه الحقيقة في الأرض إلى يوم يبعثون، وأنه قبل أن تُقام الصلاة وتؤتى الزكاة، تموج لا إله إلا الله بكل معانيها فتملأ القلوب والعقول وتبقى في الناس حرية ترفعهم إلى السماء وأقدامهم على الأرض، وتستطيع أن تقول لكل غشوم ظلوم: تبت يداك!


اللهم صل وسلم وبارك على النبي المجاهد الشهيد، وهبنا في ذكراه نورا يُضيء في المدلهمات، ورشدا ينفعنا في الشدائد، وهُدى من لدنك نفد به عليك يوم لقاك.

شارك

مقالات ذات صلة