مشاركات سوريا

بين روايتين.. البحث عن المجهول مهدي حيدر

سبتمبر 1, 2025

بين روايتين.. البحث عن المجهول مهدي حيدر

قبل البدء، في عام 2003 بُعيد الغزو الأمريكي للعراق صدرت رواية عالم صدام حسين باللغة العربية لكاتب مجهول باسم مستعار (مهدي حيدر) وما زالت التكهنات جارية حتى اللحظة عن شخصية الكاتب الحقيقية والتي ما تزال بدورها مجهولة.

 

واجهة الزجاح وسط دمشق

خلال العام 2010 وفي ذروة اصطفاف طائفي شيعي سني مكتوم في بلدان الشرق الأوسط، اصطفاف جلي وواضح ولكنه من دون عنف دامي أو على الأقل ليس كما تلا من حروب طائفية في العراق وسوريا، كنت أعرُج على إحدى المكتبات في وسط دمشق لأرى رواية عالم صدام حسين للكاتب المجهول مهدي حيدر وراء زجاج الواجهة، وتنتابني مشاعر مختلطة وأفكار مشوشة عن شخصية إشكالية في زمن إشكالي، في زمن يبدو في أبعد نقطة لكي تتناول شخصية صدام حسين بموضوعية وبشكل مجرد بدون السقوط في الشحن الطائفي الأعمى والذي يحيل التفكير بالأمر، سطحية مقيتة بعيداً عن أي بُعد سياسي أو عمق اجتماعي، ليحل محل البُعدين مقاربة طائفية تختصر التطورات الاجتماعية فيها عبر سلسلة من الاتهامات الطائفية على مبدأ هم ونحن وتحول جزئيات بعينها إلى صورة ثابتة عن الآخر لا تتغير ولا تتبدل هي ذاتها ممتدة عبر ألف سنة أو يزيد.

 

صورة الغلاف التي هي صورة لصدام حسين كانت قد التقطت أثناء وجوده في الحكم وفيها كم كبير من الكاريزما القوية التي يشكلها الشارب الأسود والوجه وافر الصحة بدون امتلاء والضحكة التي تعبر عن  اللامبالاة في شخصية القائد، اللامبالاة التي تشكل السمة الأبرز للحقبة الصدامية خصوصاً خارجياً، صورة تغري بالدكتاتورية وحب الدكتاتور بوله شديد، وحب تلك الفترة من تاريخ العراق، يبدو أنها مصممة خصيصاً لذلك الغرض، فيما كنت أفسر هذا الانسحار بالدكتاتور أحياناً بيني وبين نفسي أنني من بيئة قريبة من الصدامية بل أنها لم تعرف حركة شعبوية كما عرفت صدام حسين، لم أملك الوقت لقراءتها ولا المال اللازم لاقتنائها، شيئان عزيزان في حياة كل طالب جامعي.

 

لعشر سنوات لاحقة أو أكثر غرقت في يوميات الطائفية على هامش الثورة السورية او الربيع العربي، بدا أن كل ما زخرت به كتب التاريخ والروايات والفقه يجد طريقه إلى الواقع، لقد عشت -وربما ما زلت أعيش- ذات الفصل من حياتي وربما أعيش ذروتها في ما أستطيع أن أطلق عليه مرحلة الوعي بطائفيتي وعالمي الطائفي والصراع الطائفي، وإذا كان الوعي الفردي والشخصي لا يكفي لتقييد المارد الطائفي في المجتمعات والدول، إلا أنه يعطي عزاء متأخراً ومستحقاً، لسنوات عديدة كنت تائهاً بين ضلالات أوروبا وبدعها الفكرية في عالم اللجوء والاندماج والرغبة في إيجاد حياة مختلفة وهادئة ومستقرة، أكثر صدقاً وتصالحاً مع الذات وأكثر وضوحاً، خصوصاً أنني غادرت تركيا بعد اللجوء إليها محملاً بالشكوك والتناقضات والتشتت النفسي والفكري، وكنت بحاجة لبعض الوقت لأتعرف إلى نفسي من جديد، على أمل أن تعود أيام كانت فيها مسألة التغيير في سوريا حالة أكثر وضوحاً، وأكثر بهاء ومدعاة للأمل.

 

 

وليمة لأعشاب البحر تدلني

كانت الصدفة المحضة هي من دفعتني للبحث مجدداً عن تلك الرواية إذ تذكرتها فجأة بعد أن قرأت رواية أخرى هي رواية “وليمة لأعشاب البحر-نشيد الموت” رواية كنت أسمع عنها همساً وتلميحاً دون أن تكون معروفة في سوريا كونها كانت ممنوعة في بعض بلدان العالم العربي، ودون أن أغرق في تفاصيلها بحثت عنها في الإنترنت وجدت أنها لكاتب سوري هو حيدر حيدر، وأن بطلها عراقي يعيش في مدينة جزائرية ساحلية، في فترة ما بعد الاستقلال الجزائري، ومما يشد الانتباه فيها هو اسم البطل مهدي والذي نفترض أن الكاتب حيدر حيدر تمثله عندما كتب روايته الثانية باسم مستعار، ليكون مهدي حيدر الاسم الأول للبطل الذي كتب عنه وأغرم به حيدر حيدر لدرجة أنه أراد له أن ينتحر من أعلى صخرة على الساحل ليريح ويستريح، مهدي يشير إلى سنوات كان الحزب الشيوعي في العراق وربما المنطقة بما فيها سوريا، يعيش في دوغمائية لا تنتهي إلا بالانتحار كونها أصبحت مستحيلة في زمن انقلابات العسكر، وهو ما حدا بالكاتب لأن يعدم بطله غرقاً ليكون احتجاجاً مملوءاً بالألم والحسرة على أحلام تبددت على وقع الانقلابات العسكرية، والتي لا يراها الروائي عديمة الصلة بالدوائر الغربية بل يراها تنفذ دورها في استعمار المنطقة داخلياً من جديد، ما بين العراق ومهدي يمر حيدر حيدر على الجزائر ومحبوبة البطل الجزائرية وعلى تلك المدينة التي تحررت حديثاً من الفرنسيين وما تحمله فترة ما بعد الثورة والتحرير من تناقضات جمة.

 

 

لأربعة أيام كنت أحمل الرواية التي استعرتها من مكتبة عمومية معي في حقيبتي انتهز أي فرصة لكي أتابع قراءة بضعة صفحات أو ربما بضع مقاطع، في المواصلات وفي البيت وفي العمل كانت معي لأربعة أيام كنت أشعر أنني في سباق لكي أنتهي منها، كانت تلخص حقبة مفصلية في تاريخ العراق، صراع البعثيين مع الشيوعيين والذي انتهى بسحق الطرف الأخير، رغم تفوقه الواضح فعندما كان حزب البعث العراقي قزماً لا يتجاوز عدد نشطائه 400 ألف عضو، كان الحزب الشيوعي جماهيرياً وضخماً لديه مليشيا مسلحة تصل إلى 20 ألف مسلح، جذبني أحد مقاطع الرواية شديد التكثيف وهو يسرد مواجهة شارعية بين مجموعة يتزعمها رجل يحمل عصاه الشهيرة وبين مجموعة أخرى، إذا نزعنا هذا المقطع لنقرأ بعده مباشرة الصفحة الأولى من رواية يوميات صدام حسين نجدهما متناسقتين وتكمل إحداهما الأخرى.

 

 

 بداية رواية عالم صدام حسين تُصور صدام في لباسه العسكري الثقيل وبوطه العسكرية وذقنه الحليق وشاربه الأسود يغفو على أريكة في ملجأ معد من الأسمنت المسلح تحمل أعتى القنابل على عمق عشرات الأمتار تحت ملعب كرة قدم في بغداد سنة 1991، حيث بدأت عملية عاصفة الصحراء لإخراج القوات العراقية من الكويت بالتزامن مع قصف جوي عنيف على بغداد، الكتابة بتقنية التداعي والتي يتميز بها أسلوب حيدر حيدر تجدها واضحة في رواية يوميات صدام، حيث يستدعي أحداثاً وصوراً ومشاعر داخلية ويكثف الصور لينتج حالة غير مفهومة ولكنها تعطي شعور الروائي وتوحي به، كذلك كان تصوير الأكل والمشروبات بطريقة إبداعية في الرواية ومميزة، وهو بدوره ما كان سمة ظاهرة في روايات حيدر الكاتب السوري الذي صور بطريقة جذابة وملفتة أطباق الطعام في الشرق الأوسط وآسيا وأوروبا وروسيا وطقوس الطعام والمشروبات على أصنافها في هذه البلدان، شرائح البفتيك والستيك الحمص والكبة والمسبحة والكباب العراقي المُدهن، صحن الفول المغرق بزيت الصويا على الطريقة المصرية وتخللت الرواية مفردات لا نكاد نسمعها خارج سوريا أو بعض مناطق سوريا أحياناً مثل كلمة “جاط الفواكه” أو “وجاق شامي” عند الحديث عن كاتب مجهول للرواية، فإنني لا أجد إلا حيدر حيدر مرشحاً قوياً ليكون هو كاتبها، لقد كتب الروائي في يوميات صدام عن أجواء الحزب الشيوعي العراقي بدفء ظاهر وبمحبة وقرب واضحين بينما تحدث عن العراق البعثي الرسمي والحزبي من الخارج وبدون تحليل عميق، تحدث عن سوريا بمعرفة واضحة وتحدث عن العراق بشكل خارجي.

 

 

شخصياً أعتبر الروايتين توأمين يكمل أحدهما الآخر ويدعم أحدهما الآخر، يعتبر حيدر حيدر من الكتاب غير المقروئين كثيراً في سوريا، والإشكالية كانت متعلقة بروايته “وليمة لأعشاب البحر” حيث هاجمها الشيخ يوسف القرضاوي من على منبر الجامع، ولاقت رواجاً في مصر وبعض بلدان المغرب العربي، بعد أن جعلها هجوم الشيخ في مصاف الكتب المشهورة على مبدأ كل ممنوع مرغوب ولكنها بقيت غير مقروءة بالشكل الكافي نظراً لاحتوائها على بعد صادم وهجومي على الدين بشكل عام لا يمكن التغاضي عنه عند القارئ العادي ولكن يمكن فهمه إبداعياً ونقدياً، كاستخدام مشروع للصدمة العنيفة لخلق حالة روائية أثيرة وتمرير أفكار عن الطغيان السياسي واندثار الآمال بالتحول الديمقراطي بعد وصول أنظمة عسكرية في سوريا والعراق.

شارك