مدونات
في البدء كان الإنسان، يلهث في براري الوجود، تائهاً بين الغريزة والعقل، يبحث عن صوته وسط صمت الخلق، ويُنصت إلى داخله كمن يُنصت إلى نبوءة مكتومة في عتمة الروح. لم يكن الإنسان مجرد كائن يمشي على قدمين، بل كياناً مركّباً من خوفٍ قديم، وأملٍ لا يموت، وحاجة لا تُشفى إلى أن يُروى بالعدل، ويُغتسل بالمعنى.
ثم كانت الكلمة. وما الكلمة إلا نبضُ الوعي حين يُدوَّن، وصدى الروح حين تُضيء، وسلاحٌ حين تُكمم الفوهات ويُراد للصمت أن يكون مصيراً لا اختياراً. الكلمة مرآة الداخل وناقوس الخارج، بها نُشيِّد وعيًا، أو نهدم حضارة.
ولأن الإنسان لا يحيا بالخبز وحده، اخترع الصحافة، لا لتقصّ عليه أخبار العالم، بل لتعيد صياغة علاقته به. فالصحافة ليست دفتر وقائع، بل قنديل في ظلام الإدراك، تسير به الأمم في دروبها، وتعرف به ذاتها، وتراجع به ضميرها.
الصحافة، حين تكون على عهدها، تكتب بمداد الحقيقة لا بالحبر، وتخطّ على جدران الوقت ذاكرة لا تموت، تقف كالحارس بين السلطان والرعية، لا تنحني للذهب ولا تخشى الحديد. هي التي تجعل للكلمة أنيابًا، وللمعاناة صوتًا، وللأمل ملامحَ على وجه الغد. إنها لا تنقل الحدث فحسب، بل تسكنه، تحاوره، تسأل عمّا وراءه، وتربطه بخيطٍ من الفهم الوجودي الطويل.
أما الإعلام، فهو الساحة التي تخوض فيها الصحافة معاركها، والميدان الذي تتحول فيه الكلمة إلى طوفان أو طمأنينة، إلى عاصفة أو نبوءة. إنه القوة التي بوسعها أن تُجمّل القبح أو تُقبح الجمال، أن ترفع صوت المظلوم أو تلمّع صورة الجلاد. الإعلام هو الريح التي إمّا تهبّ بأجنحة العدالة، أو تعصف بأوهام المنتصرين.
وكم من أمةٍ قامت حين امتلكت إعلامًا حرًا، وكم من حضارة انحدرت حين استأثرت السلطة بالرواية، وصادرت المعنى، وكممت الحقيقة تحت أثقالٍ من الدعاية. الإعلام حين يصبح بوقًا، يفقد رائحته، يفقد دمه، ويفقد وظيفته الأخلاقية في نقد السلطة وتعرية الزيف ومساءلة الخطاب.
ولعل أخطر ما يواجه الإنسان المعاصر ليس غزارة المعلومات، بل شُحّ المعنى. نغرق اليوم في سيلٍ لا يتوقف من الأخبار، نستهلك المشاهد كما يُستهلك الطعام السريع، دون أن نهضمها، دون أن نسأل: لماذا؟ ومن؟ وكيف؟ أصبحت الكلمة تُباع وتُشترى، تُفبرك وتُقصّ، تُطبع على مقاس الرعاة لا الرعية، على مقاس الإعلانات لا العدالة، على مقاس السوق لا الضمير.
في هذا الزمان الرقمي، حيث تتحوّل الحقيقة إلى صورة عابرة، ويُختزل الألم في “ترند”، لم يعد الصراع بين الصحفي والسلطة، بل بين الإنسان وشاشةٍ بلا قلب. أصبح الوعي ذاته محلّ معركة: من يحق له أن يروي القصة؟ من يملك نَسْج الرواية الجماعية؟ من يُدير ما نظنّه حقائق؟
إن الصحفي، إنسانٌ قبل أن يكون مهنة، قلبٌ قبل أن يكون مايكروفونًا، باحثٌ عن النور في كهوف التضليل. وهو حين يكتب، يفتح نافذة في جدار الجهل، يزرع شجرة في أرض اليأس، يدوّن الألم كمن يشهد على الجريمة لا كمن يرويها فقط. كل سطرٍ يكتبه، إن لم يكن شهادة حيّة على الوجود، فهو زيفٌ وإن صدق في الظاهر. كل جملةٍ، إن لم تُشعل شمعة في دهاليز الفهم، فهي رماد حتى لو تلألأت لغويًا.
ولأن الحضارات لا تُقاس بالأبراج والمصانع فقط، بل بنوعية الأسئلة التي يطرحها أبناؤها، فإن الإعلام النزيه يظل أداة فحص ضمير الأمة، لا مجرّد مرآة لما يحدث. إنه ميزان لا ميزانية، بوصلة لا بوق، روح تسري في مفاصل المجتمع، تقاوم السكون، وتقاوم الزيف الذي يلبس ثياب الإجماع.
ويا للعجب، كيف أن الصحافة الحرة يمكنها أن تكون نقطة التحول بين زمنين: زمن يُدار فيه الإنسان كأداة، وزمن يصير فيه الإنسان غاية. فالوعي هو الجدار الأخير، وإذا سقط، سقط معه كل شيء: القيم، والمبادئ، والحق، والمستقبل.
فاستلهموا التاريخ إذًا، وعودوا إلى الملاحم الأولى، حيث الكلمة كانت رصاصة في وجه الطغاة، حيث الصحفي يُقتل لأنه كتب، لا لأنه خان، وحيث الإعلام كان منبرًا للناس، لا منصة للسلطة.
استشرفوا المستقبل أيضًا، عالمًا قد لا تُحكم فيه الشعوب بالحديد، بل بالخوارزميات، عالمًا قد تكون فيه أكبر ديكتاتورية هي تلك التي لا نراها، ولا نحس بها، لأنها تتحدث بلساننا، وتفكر بالنيابة عنّا.
ووسط هذا المشهد المركّب، يبقى الإنسان هو الأصل. فإن صلح ضميره، صلحت مهنته. وإن شاب يقينه، فسدت روايته. الإعلام لا يُصلَح بالتقنيات بل بالقيم، ولا بالميزانيات بل بالبصيرة. الكاميرا لا تصنع صحفيًا، كما لا يصنع السيف فارسًا. من لا يحمل في قلبه قلق الحقيقة، لا يستحق أن يرويها.
فيا صحفيي هذا العصر، لا تبيعوا أرواحكم مقابل راتب، ولا تدفنوا أسئلتكم في مقابر المذيعين، وكونوا حجارة في مجرى الأكاذيب، ومصابيح في زوايا العتمة، لأن التاريخ لا يذكر من نقل، بل من تجرأ. ويا إعلام، عُد إلى ضميرك، لا تكن صورةً بلا سياق، ولا خبرًا بلا أثر، ولا صوتًا بلا صدق. ويا إنسان، تذكّر أنك لست مجرد مستهلكٍ لما يُعرض، بل صانعٌ لما يُخلد. فالكلمة التي لا تحررك، تُقيّدك. والصوت الذي لا يُنيرك، يُضلّك. والإعلام الذي لا يخدم وعيك، يدفنه حيًّا.