تأملات

لا يُسْقِطُ الموتُ الحبَّ!

أغسطس 29, 2025

لا يُسْقِطُ الموتُ الحبَّ!

كلُّ ما يحدث الآن، يشبه الحرب، شيءٌ واحد لا يشبهها (الحبّ)، أنا التي لم تعد تشعر بالحماس حين تستمع لقصصه، لكنّني لم أفقد قدرتي على الابتسامة، أبتسمُ لهذه القلوبِ التي تحاولُ أنْ تراقصَ الغيومَ بينما تناورُ رصاصَ الطائراتِ المسيّرة.

ابتسمتُ لربطة الخبزِ يا هلا، دية الخطوبة تلك)، هذا ما لم أُخبركِ سابقًا، وأُخبركِ به الآن “امتنانًا” لتلك الابتسامة التي تركتها على شفتيّ في حينها، قلت في نفسي إنّ صاحب الهديّة “عاشقٌ جميل”، (فالخبز الطازج تحت الحرب يعادل خاتم ألماس)، ولم أكن أعرف اسمه ولا وصفه ولا رسمه!

ولأنّها الحرب، فإنّ القصص فيها متسلسلة، بمعنى أنّ كلَّ صورةٍ وكلَّ حدثٍ تحت الحرب ليس مجرّدًا، إنّه منظومةٌ متّسقة تحوي مئات الأحداث المترابطة والتي تدور حول بؤرةٍ واحدة، تشبه في رسمها النقطة التي نرتكز عليها لنرسم مداراتٍ متتالية للدائرة، تلك النقطة هي السرّ، فهي تستطيع أن تستجلب كلَّ حدثٍ يكمنُ في إطارها، وكذلك غزّة وهي تحفظُ قلوبَ عشّاقها وصحفييها ومحاربيها وأطفالها ونسائها وشعرائها وعازفيها ورسَّاميها وبكّائيها وناحبيها ..

عدتُ لأرى وجه ذلك العاشق، والذي كنت مدينةً له بابتسامةٍ حقيقيّة تسللت إلى شفتيّ في حربٍ خشيت فيها أن أنسى كيف أبتسم..

محمد سلامة يشبهُ قلبَهُ بطريقةٍ ما، لكنَّ الأمر السيء الذي استجدَّ على حالتي النفسية، أنَّني لا أستطيع أن أُخبره عن امتناني ذاك، تؤلمني الحرب لأنّها دائماً تعاتبني (لا تؤجّلي امتنانكِ، لا تؤجّلي شكركِ، لا تؤجّلي حزنكِ، لا تؤجّلي نصّكِ، لا تؤجّلي مواساتكِ، لا تؤجّلي صورة السيلفي .. 

الآن فهمت (لاءها) التي تلحّ عليّ بها منذ عامَينْ.

ومن أجل ذلك (أكتبُ لكِ يا هلا)

وسأخبركِ بأنَّ صورتكِ (وأنتِ تُمسّدينَ بكفّكِ على ترابِ حبيبك) كَسَرَتْ قلبي، أنا التي أُغْمِضُ عيوني كلّما لاحَ أمامي شاهد قبر، وكلّما مسحت امرأةٌ على تراب قبر لأحدٍ تحبُّه، ذلكَ التّرابُ يؤلِمُ روحي، لأنّه الحقيقة الكاملة أمام الرحيل الأخير، في كلّ مرةٍ أمسح بها على قبر أطفالي ينكسرُ قلبي وكأنّه أولُ مرّة.. لكنَّني أكتشفُ في لحظةٍ مكاشفة باكية، أنّ قلبي مليءٌ بالغرف المكسورة، أظنُّ أحيانًا بأنّني بخير وأنّ الصباح حلو، وأنّ الهواء عليل، أسمع فجأة صوت الإسعاف، فتطفو كلّ تلك الغرف المكسورة إلى السطح .. فيغصُّ صوتي وتثقل خطواتي.


لكنَّ شيئًا يجعلني أطمئنُ في هذا الذهول الذي يجتاحني من قسوة الحرب وبشاعتها، أنّ الله عزّوجلّ عليم، ودائمًا تؤنسني هذه الآية “وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا”، إذا كانت ورقة الشجر الصغيرة المتهالكة التي تقع على الأرض بعلم الله عزّ وجلّ، فكيف بالصواريخ والقذائف وهي تسقط فوق رؤوس أطفالنا وأهالينا؟ نعم إنّها آيةٌ مؤنسة بطريقةٍ عظيمة، طالما أنّ كلّ حدثٍ في الكون بعلم وحكمة الله فهو الخير والجمال المطلق، وإن كان ظاهره مليئًا بالألم والعذاب والحسرة، إلّا أنّ حقيقته الأكيدة (ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).


هل يسقطُ الحبّ؟

إنّه لا يسقط، ولا يمكنُ له ذلك أيضًا، وقد أسسّ لفكرة أنّ الموتُ لا يُسْقِطُ الحبّ، حبيبنا سيدنا محمد ﷺ، في مشهدٍ أحبُّ تتبعه في الروايات، أنّه حين فتح مكة، وقف الرسول ﷺ قرابة قبر السيدة خديجة عليها السلام وقال لها (قد عدتُ يا خديجة)، بعد القرآن، ينقذني الفقه المحمديّ في تفاصيل الحياة ودقائقها، في سبر غور حزنها وفرحها، وفي المسح على قلبي بحنانٍ وافر، يؤسّسُ سيّدنا أبا الزهراء ﷺ إلى ماهية نّ الذين يفارقوننا بأجسادهم لا تفارقنا أرواحهم، وأنّ الروح هي حياة الجسد، والجسد بلا روح لا قيمة له)، هذا الحبّ الحقيقيّ والصادق ليس فقط رزقًا كما هو في الوصف المحمديّ، بل يأخذ أكثر من شكل، فيصبح ثيمة للفتح النورانيّ في رسائل مجيدة بين سيّدي شمس الدين الشيرازي وسيّدي جلال الدين الرومي، وقصائد شعريّة وروايات ويتحوّل إلى مسرحيّات عالميّة وعروضٍ فنيّة ورقصة ملحميّة، وفي أحيانٍ كثيرة إلى غصّة!


لكن تلك الغصّة قد تتحوّل لتصبحَ شيئًا ما يومًا ما، ربّما كوّة نور في هذا العالم المظلم والذي يسحق إنسانيتنا ..

كوني بخير، وافتحي في جدار هذا الحزن كوّة النور والحياة والأمل والحبّ، فطالما أنّ بديع السماوات والأرض هو مَنْ يُقدّرُ أقدارنا فلا نرى أقدارنا إلّا مليئةً بالخير والجمال وحسن الظنّ.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

شارك

مقالات ذات صلة