سياسة
” الديموقراطية زينة أحاديثكم….فلماذا أدخلتم كل طغاة الأمن إلى حجرتها ووقفتم تستمعون وراء الباب لصراخ بكارتها….واستدعيتم كل أذنابكم…وتنافختم حرية وصرختم فيها أن تسكت صوناً للإستقرار؛ فما أشرفكم أدعياء الحكمة….هل تسكت مغتصبة “
إن فكرة الديموقراطية…هذا المنتج الجيد للعقل البشري ستظل دائماً فكرة يمكن تطبيقها قليلاً والحديث عنها كثيراً. الديموقراطية التي نشأت حسب أرجح الأقوال وأصح التأريخات في اليونان قبل الميلاد وتم تطبيقها حتى وإن كان الامر آنذاك مبتور فغير مسموح للنساء والعبيد بالمشاركة والأمر مقصور على الرجال الأحرار الذين أدوا الخدمة العسكرية بين سن الثامنة عشر والعشرين الإ أن ذلك ووفق معطيات هذا العصر كان أمر جيد ومقبول فالحاكم يقابله مجلس استشاري معتبر له الحق في أن يناقش ويقرر ومسموح له في كثير من الأحيان أن يعارض ويمنع تنفيذ قرارات الحاكم.
مثل تلك المجالس والتي تشكلت في بادئ الأمر من النبلاء فقط الإ أن ممارسة الديموقراطية بشكل معقول وإعلاء القيم الإنسانية ومبادئ العدل والحرية والكرامة سمح بعد ذلك بإشراك أفراد ممن اصطلح على تسميتهم بالعوام آنذاك.
لقد شهدت أثينا ميلاد الديموقراطية ومن ثم انتقلت بعد ذلك إلى الإمبراطورية الرومانية وتزامناً مع تواجدها في أوروبا في عصور ما قبل الميلاد تواجدت ايضا في آسيا في بعض ممالك الهند القديمة أو في حكم المدن في فارس وقد يكون سبق ذلك كله نموذج آخر وربما أفضل في تطبيقه بمملكة بابل وظل العقل البشري يطور الفكرة شيئاً فشيئاً وفقاً لمعطيات ومتطلبات كل فترة زمنية؛وفي كل تطوير للفكرة تظهر بعض القوانين التي ترسخ أكثر للفكرة وتحميها.
ظل الأمر على هذا الحال حتى القرن التاسع عشر والذي بدأت تترسخ فيه ديموقراطيات واضحة المعالم وإن كانت أيضاً غير ناضجة وغير منتشرة بشكل واسع فلم تتخطى في أفضل التقييمات بضع وعشرون دولة حول العالم.
إلا أن الأمر لم يتوقف والحالمون بالعدالة والمساواة في كل مكان على ظهر الارض استمروا بالمحاولة حتى إنه ومع بدايات القرن العشرين بات أكثر من نصف دول العالم تتبنى أنظمة ديموقراطية واستمر الأمر في تطور وعدوي التغيير تجتاح جميع الدول مع انطلاق ثورات التحرر؛ التحرر من الإستعمار ومن الإقطاع ومن الأفكار المتحجرة في عقول من مارسوا السياسة في ركاب فاسد أو مستعمر حتي وصلنا إلي مانحن عليه اليوم ؛ فنجد كل دول العالم تعلن عبر أنظمتها الحاكمة وأبواقها الإعلامية أنها أنظمة ديموقراطية، كل دول العالم تدعي ذلك وتهتف به ربما بإستثناء ثلاث دول فقط هي التي تري أن لها أنظمتها الخاصة وترفض فكرة الديموقرطية.
وبالحديث عن الحال في عالمنا العربي فإننا كثيراً مانسمع من كل مسئول في بلادنا عن الديمقراطية ؛ الحلم والأمل ؛ عن الديمقراطية كممارسة يتم العمل علي ترسيخها وبنائها ؛ وأدوات البناء معلومة للجميع ؛ السجن والإقصاء في الإختلاف والاحتفاء بكل مؤيد ” بشكل مطلق ” فالمؤيد هو من يعرف حجم العمل وقيمة الإنجاز ومعني الوطن وشرف المواطنة وأهم من كل شئ الإستقرار.
وأما من يعارض أوحتي يؤيد بشئ من الحياد هو إما ممول أو مدفوع من قوي الظلام وأهل الشر فعلي الجميع احترام ديمقراطية الأسياد وشكر مايمنح وكراهة أو تحريم مايمنع فالديمقراطية بالنسبة للسياسيين في بلداننا العربية أشبه بربطة العنق شئ مهم لإستكمال المظهر لكنها طوق ضيق علي العنق…بدونها قد يبدو المظهر أقل وجاهة لكن أكثر راحة، وفي المقابل ؛ تري معارضة مهترئة ومشتتة بين يمين ويسار، اشتراكي وليبرالي ..شيوعي ..ماركسي ..قومي ..ثيوقراطي.
كل قوى المعارضة في شتي جنبات تلك الأمة وعلى ضعفها الظاهر الذي لايخفى على أحد وعلى كثرة تشعبها واختلافها على ذاتها ” فالاختلاف قائم ومحتوم حتي بين من يتبنون نفس الأيدولوجيا” (والإختلاف ليس هو المنتقد )؛ وإنما هو أمر جيد يوشك لو أن دافعه استخلاص مصلحة أو إعلاء قيمة ووسيلته العقل أن يثري كل حوار وأن ينير الدرب ويقرب المسعي ؛ أما إن كان دافعه الظهور ومحركه الهوي كما هو الحال في السواد الأعظم من المبارزات الفكرية وجلسات التنظير الخاصة والعامة فالنتيجة حتماً خيبة الأمل.
المعارضة التي دائما ما تنادي بالديموقراطية وتتوسلها من أنظمة غاشمة هي أفشل من يطبقها رغم الإبداع في الحديث عنها. الجميع يطلب الإحتكام لرأي الأغلبية كما “الديمقراطية” ولكن نجد الإنسحاب أو تعليق المشاركة أو الإستقالة أو إعتزال الأمر تماماً إذا لم تكن تلك الأغلبية متوافقة مع هوي النفس.
وبين الأنظمة والمعارضة هناك عوام الناس وأقصد كل شخص غير مسيس ؛ وغير آبه بمن يحكم أو من يعارض وإنما حياته فقط … حياته الخاصة هي شغله الشاغل وهمه الوحيد وعلي تباين الإهتمامات بين الجميع واشتغال بعضهم ببيته أو بعمله أو حتي شهواته ونزواته ؛ علي أختلاف إجمالي حيواتهم وتفصيلاتها فجلهم يتفق علي أمر واحد ؛ كل واحد منهم هو صوت الحق ومقياسه فالرأي هو مايري وإن خالف هذا أقرب الناس له فهم لايعرفون مصلحة أنفسهم.
هذا هو حال الأمر بين الزوج وزوجه والأب وأبنائه وزملاء الدراسة وزملاء العمل والأصدقاء ؛ الأمر في أغلب الأحايين ليس نقاشاً للوقوف علي رأي وإنما صراعاً لإنفاذ رأي.
نجد ذلك يحدث مهما كان الموضوع مهماً أو تافهاً قد يفضي إلي شئ أو أنه من قبيل السفسطة المقيتة فتجد السجال يمتد لساعات لإثبات شئ لا ينتفع بعلمه والجهل به لا يضر.
هذا الواقع المرير في وطننا العربي أرجعه البعض إلي طبيعة الشخصية العربية وهذا ليس منطقي لأن منهم الكثير جداً ممن يفهمها جيداً ويطبقها بإرادة حرة؛ ربما الإستعمار تسبب في ذلك ولكن الإستعمار قد انتهي منذ زمن طويل؛ وغيرنا من الدول التي مرت بتجارب مماثلة قد تجاوزت ذلك.
بقي أمر الدين …لم يكن الإسلام بعيداً أبدأً عن الديمقراطية حتي لو اختلفت الطريقة فجوهر الأمر حسب ما أعتقد واحد ، بل إن الإسلام يبرز ويبلور الهدف من أي نظام سياسي عادل سعي إلي إيجاده العقل البشري فالأنظمة دائماً توضع من أجل إحلال العدل والمساواة في المجتمع وهو مانادي به الإسلام من أول يوم حيث أزال الفوارق بين الجميع بشكل واضح وجلي تماماً حيث ألغي الرق والعبودية وساوي بين جميع أفراد المجتمع فلا فرق ولا تفضيل الإ بالأخلاق والعمل.
كما نظم طريقة اتخاذ القرار عن طريق الشوري بين أفراد المجتمع جميعاً حاكماً ومحكومين وفي هذا أمر قرآني في أكثر من موضع وسورة كاملة في القرآن سميت ب “الشوري” حتي إن الرسول صلي الله عليه وسلم وهو الذي يأتيه الوحي من الله يأتيه أمر مباشر “وشاورهم في الأمر”.
إن كان هذا هو الحال مع الرسول مع مايأتيه من وحيّ سماوي وعلمٍ رباني فالأمر بديهي وحتميّ أن أي حاكم يأتي من بعده مأمورٌ بالتشاور مع كل أطياف المجتمع ومكوناته؛ أما عن إختيار الحاكم والذي لم يرد فيه نص أو طريقة للحكم؛ ولكن كان هناك البيعة والتي تتم بعد مداولات ومشاورات بين أهل الحل والعقد ؛ ثم يأتي بعد ذلك دور العامة في منح البيعة وهذا امر فيه من العظمة والرقي مافاق أي نظام حديث ، فحق البيعة أو التصويت مكفول للجميع وليس كما يدعي البعض أن الأمر يفرض من مجلس مختار وإنما المجلس هذا الذي يتكون من خيرة عناصر المجتمع يفاضل ويختار من يستطيع أن يتصدر المشهد ثم يعرض علي الناس لتقرر أن تبايع أو ترفض.
أفضت في الحديث عن الديمقراطية وعلاقتها بالإسلام بحسب فهمي لأن الواقع أن كل الدول العربية والإسلامية ووفقاً لتصنيف الإيكونوميست دول غير ديمقراطية كما لو ان هناك تعارض وهذا غير صحيح بالمرة.
حتي لو اختلفت التقييمات حول التطبيق الفعلي لأسس ومبادئ الديمقراطية في الكثير من الأوطان الإ أن الأمر كما لو انها كرة ثلج تتدحرج علي مدرج التغيير فتلتصق بأفكار الحالمين لتتعملق حتي تصبح عصيبة علي الكسر.. وإلي ان يصل الناس إلي غايتهم فسيبقي حلم الآحاد بالحرية والعدل والمساواة … يقين الأحرار.