مدونات
الكاتب: مصطفى نصار
الكل فشل فلا جديد: الاحتلال الإسرائيلي والحلول المؤقتة الزائلة.
في 10 أغسطس 2025، أعلن رئيس الوزراء مجرم الحرب الوقح بنيامين نتنياهو عن رغبته بخطته الميدانية العسكرية باحتلال غزة عسكريًا عن طريق شن حملة اجتياح بري لمدينة غزة بالفعل، وذلك جاء بعد عملية عربيات جدعون التي حققت نجاحًا باهرًا على المستوين العسكري والميداني. وواصل نتنياهو بأن هذه ستكون العملية النهائية التي ستحسم مشكلة الأسرى الباقين لدى حماس، وتحقق تقدمًا عملياتيًا وازنًا بحسب زعمه الزائف.
يتصف الأمر العسكري والميداني في غزة بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي بالكارثي والخاسر المدوي على كافة المستويات، إذ أن جميع العمليات العسكرية السابقة منذ خطة الجنرالات مرورًا بالسيوف الحديدية، وأخيرًا بعربيات جدعون، أخفقت في تحقيق أي هدف متماسك ميداني أو محدد عسكريًا من بين كل الأهداف العسكرية المتمثلة في التخلص من حركة حماس، وإحضار قوة دولية أو عربية لحكم الغزيين، وإعادة السيطرة على القطاع كاملًا، من دون حتى حساب التكلفة الدقيقة للاحتلال على المستوى الميداني والعسكري، الذي تصدع بشأنه العديد من الخلافات القوية بين قادة الجيش الإسرائيلي.
بدأت الخلافات بخلاف نتنياهو ورئيس أركانه إيال زاميير، وانتهت بالشقاق الجسيم أول أمس عندما أقال بمنتهى العجرفة والغرور أكثر من 100 طبيب عسكري، و150 طيارًا حربيًا غير المستقلين عن أنفسهم.
وفي هذا الصدد، تشكل الكمائن المعقدة والمركبة العظيمة للمقاومة وفصائلها أزمة معضلة أخرى عسكريًا وميدانيًا في عدة جوانب هامة للغاية، ألا وهي أن السيطرة العسكرية على غزة وهم كبير، وأن الاستقرار النسبي مثل الضفة الغربية يحتاج بالفعل وعمليًا لعدة سنوات يسخر فيها الاحتلال الإسرائيلي كافة الموارد العسكرية والجنود البشرية من المنتظمين في الجيش والاحتياط كذلك، وهذا أمر مستحيل “ويجب إنهاؤه”، بحسب مقال مطول للعقيد احتياط الشهير يتسحاق بريك، مسجلًا شهادة نادرة عما فعلته حرب الاستنزاف قصيرة الأمد في الكيان الإسرائيلي لمدة عامين كاملين حتى الآن، محدثة عددًا مهولًا وحصيلة ضخمة من القتلى والجرحى والمعاقين نفسيًا وجسديًا.
كما يواجه الكيان المحتل الإسرائيلي أزمة مركبة ومعقدة في موضوع الجنود الملتزمين بقرار الانصياع للتجنيد بغزة، إما برفضهم المباشر أو تملصهم الصريح وتهربهم الجلي، وصولًا للأزمات النفسية المركبة والمعقدة بحق، التي قدرت بحوالي 70 ألف جندي إسرائيلي، ما جعل الصحفي ميرون راببوربت يصفها في مقاله المطول بأكبر أزمة جنود منذ عقود، مؤكدًا فشل العملية العسكرية بكفاءة عالية وامتياز عظيم، وسط ازدياد عدد المقاتلين بحماس إلى 70 ألف مقاتل، أي بزيادة ثلاثة أضعاف، وهو ما يعد إخفاقًا وفشلًا مدويًا من البعدين العسكري والميداني، بحيث غذى الاحتلال الرغبة المحمومة لدى أهالي غزة في الانضمام للكتائب الشريفة من باب الانتقام المضاد، لا فقط التوافق الفكري أو الإيديولوجي حصرًا.
وبهذه المعطيات، ستتحول غزة الصغيرة إلى فيتنام إسرائيل، حيث أنها تباغت العدو بالعديد من المفاجآت الدفاعية لاستدراكها الشامل والتفصيلي للتقنيات الأرضية ومجابهتها المضادة، حتى خروج نتنياهو ليعلن كما أعلن الصحفي المخضرم ديفيد هيرست في مقال له في 10 مايو الماضي بعنوان “لقد خسرت إسرائيل الحرب لكنها لا تود الاعتراف بذلك”.
الاحتجاج الدافع عن غزة:
في تحول المجتمع الإسرائيلي تجاه حكومته، إن الدرس الأبرز الذي تعطيه المظاهرات المناهضة لحكومة الاحتلال الإبادي بقيادة مجرم الحرب بنيامين نتنياهو، هو مدى الشجاعة الأصيلة، رغم أنهم محتلون مجرمون يقتلون ويسفكون الدماء كما يتنفسون، والتي شملت أطباق واسعة من الناس على رأسهم رابطة أهالي الأسرى الإسرائيليين، التي خدعت بالكذب والتحوير والتضليل من قبل رئيس وزرائهم المزعوم، مصنفًا إياهم باعتبارهم مثيري شغب لا يُعتد بهم قانونيًا، دون السؤال المنطقي المطروح: “لم لم يوقف الحرب حتى الآن ويُنقذ الأسرى المعلقة جوانبهم وعوائلهم المحاصرة؟”.
تمثل تلك المظاهرات القوية التي واجه فيها المتظاهرون نتنياهو ملمحًا جديدًا على أثر الرغبة الأولية في احتلال غزة عسكريًا، فزاد الانقسام وأعمق الهوة الصريحة بين أطياف المجتمع الإسرائيلي من متدينين ومتطرفين وملحدين ثقافيًا. يتبين للقارئ أن الخلاف الحادث نتيجة حتمية لتعنت الحاكمين، وعلى رأسهم نتنياهو وبن غفير وسموتيرتش، الذين يحلمون بإسرائيل الكبرى، مقابل الحفاظ على مناصبهم السياسية وائتلافهم الحزبي المهدد بالتفكك السريع والمتسارع، ما يهدد الكيان ذاته بخسارة فادحة للحرب ضد غزة، بحسب ما أشار أستاذ الفكر السياسي بجامعة رايخمان، شموني مور، في مقاله تحت عنوان “الفخ المحكم: غزة باعتبارها مستنقعًا حربيًا لنتنياهو”.
ومن المهم الإشارة إلى أن الصهاينة في مجملهم اجتماعيًا ضد ما يسمى بالحرب الأبدية على قطاع غزة لعدة دوافع، على رأسها الأسرى والعامل الاقتصادي المنتعش مصريًا، رغم انهياره على عدة مستويات، منها المصاريف المدفوعة حتى الآن على الحرب “الجنهمية” بحد تعبير جال ليوز، الصحفي الصهيوني المخضرم والخبير الاقتصادي، معددًا إياها في بعض الأرقام الدالة الهامة في التجارة والصناعة الداخلية على وجه الخصوص، والتقنية السيبرانية في انحدار واضح للاقتصاد عامة والمجتمع المدمر خاصة.
والمضحك في الأمر تحذير المجتمع المستمر لدرجة جعلت أحد الناشطين الأمريكيين المؤيدين للقضية الفلسطينية يطلق عليه بسخرية ذات مرة “المجتمع الداعم لغزة” لشدة دعمه لفكرة وقف الحرب على غزة، أو كما كتب الأستاذ الفخري للعلاقات الدولية أمين سينكال: “احتلال غزة ما هو إلا تعويذة عكسية”، أراد بها كسب جماهيرية لكسب الانتخابات القادمة، مثلما فعل في حرب الـ12 يوم مع إيران، ليكتب الفشل الذريع له في البلدين، لا لشيء سوى اعتماده على عقيدة اللاحل والإضعاف المستمر طويل الأمد، ليهرب بقدر استطاعته الممكنة واحتمالاته الواردة من المحاكمة العاجلة، وانتهاء مسيرة عمله باعتباره سياسيًا مخضرمًا حكم الكيان الإسرائيلي لما يقارب ربع قرن من الزمان.
وهكذا، تحول المجتمع الصهيوني تقريبًا بشكل شبه كلي إلى معارض لخطة الاحتلال العسكري الكامل لغزة، ليس فقط شعارات جوفاء، بل أن مماطلة نتنياهو الطويلة، خاصة بعدما سقطت حجته البالية والهشة برفض حماس للمفاوضات الآلية بنهاية الحرب، مع رغبته المحمومة بإكمال الحرب الأبدية حتى تأتي الانتخابات المقبلة أو يثبت حكومته المتهاوية أصلًا، ما يعني بالضرورة أن احتلال غزة مجرد خرافة هوائية سائلة أو محاولة يائسة تغني عن تفكك الحكومة السريع والحتمي.
الحقيقة الجلية في ذلك تتضمن باختصار شديد تحقق مقولة الشهيد القائد يحيى السنوار رحمه الله: “سنضع الكيان في معادلة صعبة، سيدخل بعدها في حالة من العزلة الدولية”، متجاوزًا حالة العزلة من المجتمع الدولي إلى حالة عزلة وانقسام كامل يهدد بتحويل احتلال غزة “لقنبلة وشيكة على الانفجار” من أضغاث أحلام نتنياهو وحكومته المتطرفة والمتزمتة دينيًا، والثقيلة دوليًا على كلا المستويين الشعبي والرسمي.
الانقلاب الكبير: زلزال الدعم الدولي لغزة يتحول لكرة لهب
بوتيرة متنامية، يعاني الغرب من تزايد موجات الغضب الشعبي بطريقة غير مسبوقة، وغير حادثة من قبل، متمثلة ومتجسدة بشكل مختصر مفيد في تبني الغرب لقضية فلسطين، حتى صار الغرب على المستوى الشعبي يهتف لأبي عبيدة وشبابًا تُعتقل وتُسحل من أجل إيقاف الحرب على غزة، والذي يعد “علامة ثورية”، كما قال المحرر والكاتب الأمريكي آدم شاتز في مقال بعنوان “ما بعد 7 أكتوبر عالميًا”.
نجح المباد مجددًا في تشكيل مرآة لمعاناة غزة الحية وألمها النابض وجراحها الباردة من أثر الحريق الملتهب، مسلطًا الضوء على الشعوب الغربية على وجه التحديد. وقد تجسد هذا القلق الحي والحنق في عدة مواقف قوية ووازنة، كالمقاطعة الرسمية أو سحب الاستثمارات المباشرة من الشركات الإسرائيلية، مثلما حدث مع صندوق السيادي النرويجي، وكذلك إصدار القوانين الرسمية والالتزام بحكم الجنائية الدولية، مثلما أصدرت البرازيل القانون الأقوى أثرًا حتى الآن على مستوى السياسة الخارجية والعلاقات الدولية بمنع استقبال السفير الصهيوني للدولة التي ترتكب إبادة جماعية، بحد تعبير رئيسها لولا دا سيلفا، تقارب ما فعله هتلر مع اليهود.
فبعدما حدث الزلزال السياسي القوي، تحققت العزلة الدولية بكافة أركانها المؤسسية والأساسية للكيان الإبادي، لإنه حقق في إجرامه واختراق القانون الدولي سبيلًا رائعًا جعله بجرائم حربه المأساوية والبشعة بحق، ومع استمرار الوضع على هذه الوتيرة المعتمدة بشدة، فإن احتلال غزة عسكريًا سيقلب الفعل على فاعله، ليتحول من سياسي يحاول البقاء في منصبه وحزبه، إلى كرة لهب متراكمة تلتهم العالم الغربي أجمع.