سياسة
نشط فريق التطبيع مع الكيان الصهيوني في الآونة الأخيرة في المحاولة لهزيمة القضية الفلسطينية والمقاومة فكرياّ، توازياً مع محاولة هزيمتها و تصفيتها على أرض الواقع. خطورة تلك الحرب الفكرية، أن بإمكانها أن تجند كثيرين من محبي السلام والعدل، والأكثر من ذلك، الغالبية التي يهتز كيانها للمآسي الإنسانية سواء من الإبادة الحالية في غزة بشكل خاص، أو من أثر الحروب عامة، وعلى منطقتنا المنكوبة تحديداً، فتنتقل إلى معسكر التطبيع بحسن نية.
ففي فترة محورية في مستقبل أوطاننا، من المهم جدا أن نتأكد من صحة معتقداتنا، ونعلم ما يقوله المعسكر الآخر. أهم سردية لمعسكر التطبيع والصهيونية، أن الكيان الصهيوني أمر واقع، ومن لا يعترف بذلك لا يحب السلام، ولا يريد السلام في المنطقة!
فقد يقول قائل، فلماذا لا ننتهي “من وجع القلب”، ونعترف بهزيمتنا، وهزيمة فلسطين، و نعترف بإسرائيل، ونطالب كفلسطينين وعرب من حماس وحركات المقاومة من أسلحتها، حقنا للدماء؟
المشكلة الحقيقية تكمن في أن من يطرحون الأمر، سواء بحسن نية أو سوئها، لا يؤلون اعتبارا لطبيعة الكيان، و يتعاملون معه كدولة طبيعية، لها اتصال طبيعي بالأرض، خاضت حربا وفازت بها. من يدعون ذلك، فهم لا يدركون أن الصهيونية تحديداً ليست فكرة “معقولة” بل فكرة جنونية، فوقية، إبادية، تقوم على فكرة إحلال الشعب اليهودي محل الأغيار والأماليك، ولا بأس إن أبادتهم برجالهم ونسائهم وأطفالهم، كما سمعنا من قادته مرارا وتكرارا.
الكيان لا يريد حدود ٦٧ بل يريد فلسطين كلها. ويكرر قادته أن دولتهم على أرض فلسطين كلها وضمنها “يهودا والسامرة”- الضفة الغربية. لا تصدقونا نحن، بل صدقوا الكيان عندما يعترف على نفسه! هذا ما ينص عليه دستور حزب الليكود، الحزب الحاكم! إن دولتهم على الأرض التاريخية كلها، من النهر إلى البحر.
هذا ما يذكره الكاتب “الإسرائيلي” إيلان بابيه، و الذي خصص للموضوع كتابا كاملا بعنوان “التطهير العرقي للفلسطينيين”. وهذا ما نراه في الواقع. فقد ألقت حركة فتح، وألقى ياسر عرفات أسلحته. فماذا حققت أوسلو وما بعدها؟ هل حققت دولة؟ هل توقف الاستيطان بعدها؟ فعدد المستوطنين تجاوز الأربعة أضعاف منذ ذلك الوقت. يقدر أن المستوطنين في الضفة الغربية وحدها كانوا حوالي مائة وعشرة آلاف بينما أصبحوا الآن أربع مائة وستون ألفا! فهل منعهم من ذلك القانون الدولي، أو التزام السلطة الفلسطينية والتعاون الكامل مع الاحتلال؟ بالعكس، فمقارنة بالأراضي المحتلة لأرض فلسطين التاريخية، فإن غزة هي الوحيدة التي نجت من المستوطنين، وتم تفكيك المستوطنات كليا من أراضيها!
هذه مشكلة و حقيقة الإستعمار الاستيطاني -خلافا للاستعمار التقليدي الكلاسيكي- أنه لا يقبل بوجود السكان الأصليين ككتلة، فيريد أن يحل مكانهم!
قصص التاريخ موجودة لنا كعبرة. حاول السكان الأصليون في الولايات المتحدة إبرام اتفاقات سلام من أجل البقاء، وتقبل الأمر الواقع. في حوالي التسعين عاما الأولى منذ التأسيس، أبرم السكان الأصليون أكثر من ثلاثمائة وستين معاهدة سلام، علّ الحكومة تتركهم في حالهم، وتسمح لهم البقاء. ولاحقا كل تلك الاتفاقيات تم نقضها، حتى تحول السكان الأصليون لتاريخ، يتم الاحتفاء الوهمي به على مائدة عيد الشكر!
وفوق كل ذلك، عمليا، لم توجد عقيدة تمنع الحكومة الأمريكية، والبريطانية التي سبقتها، من التعايش جنبا إلى جنب مع السكان الأصليين، ومع ذلك قاموا بإبادتهم والاستيلاء على أراضيهم.
لكن توجد عقيدة تمنع “الإسرائيليين” من التواجد جنبا إلى جنب مع الفلسطينيين، وهي أن فكرة الصهيونية والدولة نفسها قائمة على “وطن يهودي لليهود”. وبما أن الفلسطينيين عددهم مساوي، بل قد يتجاوز عدد الإسرائيليين، فالاعتراف بهم، وبحقهم بالرجوع، لن يبقي لهم وطن يهودي!
ولذلك يعمل الكيان، بوتيرة رتيبة في الضفة والقدس، على قتل الفلسطينيين وتهجيرهم، وتدمير بيوتهم، وبوتيرة سرعة الصاروخ، على إبادتهم وإفقارهم وتجويعهم في غزة (من قبل السابع من أكتوبر ومنذ محاصرتها عقب فوز حماس بالانتخابات عام ٢٠٠٦).
هذا هو الواقع الذي يناشد به المطبعون. أن يقتل الفلسطيني والفلسطينية كل يوم بسرعات متفاوتة، لكن دون إحداث ضجيج دولي، أو تكدير السلم الإسرائيلي الذي يجعله يقيم الحفلات، بينما جاره الغزي ينام محاصرا وجائعا على بعد أمتار، والآخر في الضفة يقتل في حفل زفاف.