آراء

لوبيّات المملكة المغربيّة في واشنطن: لماذا تسعى الرباط على تصنيف البوليساريو إرهابيّة؟

أغسطس 27, 2025

لوبيّات المملكة المغربيّة في واشنطن: لماذا تسعى الرباط على تصنيف البوليساريو إرهابيّة؟

تتحرّك الرباط في واشنطن بخطّة متعددة المسارات، تُزاوج بين النفاذ إلى آليات صنع القرار الأمريكي وتكييف السردية الأمنية حول الصحراء، بهدفين متوازيين: ترسيخ الاعتراف بسيادة المغرب على الإقليم، ودفع الإدارة والكونغرس إلى التعاطي مع جبهة البوليساريو بوصفها مصدر تهديد عابر للحدود لا مجرد حركة نزاع محلي. أو بمعنى آخر، منظمة إرهابية. وتنشط هذه المقاربة بالتوازي مع معطيات سياسية منها: ميزان مصالح أمريكي آخذ في إعادة التشكل، ووظيفة متزايدة للأمن الإقليمي في حسابات واشنطن الإفريقية، ونافذة زمنية ترى الرباط أنها مناسبة لتحويل الزخم الدبلوماسي إلى وقائع قانونية.


بنية الضغط عبر عقود متعدد الأوجه

ولتحقيق تلك الغايات، اختارت الرباط تعاقدًا صريحًا مع شركات ضغط واستشارات سياسية في واشنطن الأمريكية. العقد الأبرز حديثًا جاء مع شركة، Scribe Strategies and Advisors (سكرايب ستراتيجيز آند أدفايزرز) بقيمة 405,000 دولار ولمدة ستة أشهر، وهي شركة ذات خبرة إفريقية ونوافذ مفتوحة على الدوائر المقربة من البيت الأبيض. يقود الشركة Joseph Szlavik (جوزيف سزلافيك)، وهو خبير أمريكي مخضرم في الشؤون الإفريقية سبق أن عمل في إدارة جورج بوش الأب، ويمتلك شبكة علاقات واسعة مع دوائر صنع القرار في واشنطن. الهدف من العقد، تعظيم عوائد التجارة والاستثمار، تأمين استمرار الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء، وإعادة تعريف التهديدات الناشئة من نشاط جبهة البوليساريو بوصفها تنظيمًأ إرهابيًا. هذا التعاقد  ليس الوحيد؛ فهناك عقود شهرية أخرى مع بيوت ضغط كبرى (يوركتاون سوليشنز، Yorktown Solutions ، براونستاين هاييت فاربر شريك، Brownstein Hyatt Farber Schreck أو،  أكين غامب، Akin, Gump, Strauss, Hauer & Feld) بمبالغ منتظمة، تتكامل لتغطي الكونغرس، والسلطة التنفيذية، وخزّان الأفكار، ومجتمع الأعمال.

وتتكامل هذه الشبكات لتغطية مؤسسات مختلفة، البيت الأبيض، الكونغرس، البيروقراطية الفيدرالية، ومراكز الأبحاث. وبذلك يقدّم المغرب سرديته عبر قنوات متعددة وبخطاب متكيّف مع كل جمهور: لغة الأمن القومي للأجهزة الأمنية، لغة الاستثمار والتجارة لوزارة الخزانة، ولغة الشرعية القانونية للكونغرس.

جوهر السردية، التقرير على أن مقترح الحكم الذاتي لسكان الصحراء ضمن السيادة المغربية هو “الإطار الوحيد القابل للتطبيق”، وإن أي إطالة للنزاع تُفاقم مخاطر أمنية تُلامس الحسابات الجيوسياسة للولايات المتحدة على المتوسط، منطقة الساحل، الإمدادات الطاقية، وسلاسل التجارة عبر الأطلسي. وبهذا الكيفية، تتجاوز الرباط كونها تُسوّق لـ “قضية وطنية” إلى التسويق، “لحلٍ أمريكيٍّ” لتقليص بؤر عدم الاستقرار، من منظور مصالح أمنية مشتركة.


واشنطن: اعتراف قائم، وتردد إجرائي

في سياقٍ متصل، نذكّر بأنّ الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب، الذي أُعلن في نهاية الولاية الأولى لترامب، بقي قائمًا ولم يلغِه خلفه بايدن. لكنه ظلّ اعترافًا سياسيًا أكثر منه منظومة أدوات تنفيذية شاملة. لذلك يتحرك المغرب على جبهتين: تثبيت الاعتراف في نصوص وخطط البيروقراطية (الدفاع، الخارجية، التجارة، الخزانة)، ودفع الكونغرس إلى بناء “مظلّة تشريعية” تحاصر أي رجعة، وتفتح الباب أمام تصنيفات قانونية تُضيّق هوامش الحركة على البوليساريو ومُموليها.

وهذا الذي يفسر، ظهور مشروع قانون من عضوين نافذين صديقين للمغرب، وهو القانون الذي قدّمه عضوا الكونغرس Joe Wilson (جو ويلسون) وJimmy Panetta (جيمي بانيتا) في يونيو/حزيران 2025 يطلبان عبره مراجعة ما إذا كانت جبهة البوليساريو تستوفي معايير التصنيف الإرهابي. بعبارةٍ أخرى يطلب نص المشروع من وزارة الخارجية مراجعة إمكانية تصنيف البوليساريو “منظمة إرهابية أجنبية”، مع بند يسمح برفع التصنيف إذا دخلت الجبهة في مفاوضات جادة حول خطة الحكم الذاتي التي قدّمها المغرب عام 2007. وبهذا تصبح ورقة الإرهاب وسيلة ضغط تفاوضية أكثر من كونها هدفًا بحد ذاته.


حسابات الجزائر: الخصم الذي ينبغي تطويقه؟

تدرك الرباط أن الطريق إلى تغيير سلوك واشنطن لا يمرّ عبر المغرب فقط؛ فالجزائر طرف مُعلن في المعادلة. وواشنطن، بدورها، تُبقي على سياسة مزدوجة: تعريفات جمركية قاسية من جهة، وتفاهمات دفاعية وفرص تعاون اقتصادي من جهة أخرى. بمعنى، قامت الإدارة البيت الأبيض بفرض تعريفات جمركية بنسبة 30%، وهي الأعلى في إفريقيا على الجزائر، وفي الوقت نفسه وقعت مذكرة تفاهم للتعاون الدفاعي في يناير/كانون الثاني 2025 معها. كما زار المستشار الخاص لترامب للشؤون الإفريقية Massad Boulos (مسعد بولس) الجزائر مؤخرًا، حيث التقى الرئيس (عبد المجيد تبون) ووزير الخارجية Ahmed Atta أحمد عطاف ووزير الطاقة محمد عرقاب. وهذا التباين الأمريكي مقصود؛ فهو يُبقي قنوات النفوذ الأمريكية في الجزائر مفتوحة دون التخلي عن روافع الضغط.

رهان الرباط في هذا السياق دقيق، والغرض من ورائه الدفع نحو مقاربة تُحمّل الجزائر كلفة سياسية لاستضافة ودعم تسليح الجبهة في بيئة تتداخل وجيوسياسية الساحل المعقّدة، من دون أن تدفع واشنطن إلى “رد فعل مُعاكس” يعيد التوازن لصالح الجزائر. ومن هنا تأتي لغة اللوبي المغربي باعتبارها “وظيفية” لا “عدائية”، بقصد تقليل المخاطر عبر حل عملي سريع يحفظ ماء وجه كل الأطراف ويُخرج واشنطن بمكسب الفاعل الذي يعمل على الاستقرار في المنطقة. وكلما انتشرت السردية المغربية، ازدادت كلفة استمرار الجزائر في تموضعها التقليدي، خصوصًا مع حساسيات متوسطية أوروبية حول الهجرة والطاقة والإرهاب.


ماذا عن نقاط ضعف البوليساريو: تآكل خارجي وتصدعات إقليمية

الجدير بالإشارة إليه في التطورات الراهنة، أنّ المملكة المغربية تقدّم هنا رواية اندماجية جذّابة لشركاء أفارقة، ولا سيما دول الساحل الثلاث التي تُراجع اصطفافاتها التقليدية مع الغرب. ومبادرة “الوصول إلى الأطلسي” التي قدمتها لدول كونفدرالية الساحل – مالي، النيجر، وبوركينا فاسو- بجعل الصحراء عقدة ربط أكثر منها ساحة نزاع، وتحوّل الملف من مُجرّد مسألة سيادة إلى مسألة ممرات وطاقة وتجارة. وزاوية النظر هذه تخدم خطاب الرباط في واشنطن، فالولايات المتحدة – على مر تاريخها-  لا تأبه بـ “سرديات تاريخية”، بقدر ما تميل إلى خرائط موانئ وخطوط كابلات وأنابيب ووسائط نقل تمثّل مصالحها أو ما ستجني من الانخراط، استراتيجيًا. وكلّما تجسّد هذه السردية في مشاريع مادية، ترسّخت كلفة الرجوع إلى الوراء.

إضافيًا، تمرّ جبهة البوليساريو بأضعف لحظاتها. إذ يلاحظ تقلّص الاعترافات في أمريكا اللاتينية، تراجع الزخم داخل الاتحاد الإفريقي، ارتباك تنظيمي داخلي، وتوترات في المخيمات التي تُدار في بيئة إقليمية باتت أكثر حساسية لأي تماس مع جماعات متطرفة في الساحل كما تروّجها الرباط. يُضاف إلى ذلك، أن بعض الجيوش الإفريقية رفض المشاركة في فعاليات عسكرية حين يَحضر ممثلو الجبهة، ودول عربية مؤثرة لا تعترف بها أصلًا. طبعًا هذه الوقائع لا تحسم النزاع، لكنها تُقلّص قدرة الجبهة على حشد سند دولي مضاد حين تعيد واشنطن ضبط مقاربتها. ورهان الجبهة الوحيد -راهنًا- هو الاعتماد على القانون والأمم المتحدة عبر بعثة “المينورسو”، ثم على الجزائر وحلفائها.


إذن، وترتيبًا على ما سبق، يمكن تلخيص احتمالات نجاح اللوبيات الوظيفية لدن المملكة المغربية بين ثلاثة سيناريوهات:

– نجاح جزئي (وهو المرجّح من منظور براغماتي بحت): بحيث تقوم واشنطن بتثبيت الاعتراف بسيادة المغرب عبر قرارات تنفيذية، وتضييق قانوني ومالي على شبكات مرتبطة بالبوليساريو، من دون تصنيف الجبهة على أنها إرهابية.

– نجاح كامل (أقل احتمالًا): تصنيف رسمي للبوليساريو كمنظمة إرهابية أجنبية، وهو خيار يتطلب أدلة قضائية وأمنية صلبة، بل ويصطدم ببعض التحفظات داخل الإدارة الأمريكية نفسها.

– الجمود (محتمل لكن ضعيف): الإبقاء على الوضع الراهن بسبب توازناتها مع الجزائر، والتخوّف من ردود فعل الجزائر وحلفائها، أو اعتراضات بيروقراطية في واشنطن نفسها.

لكن القراءة الواقعية – في تقديري- لما يجري على المستوى الإقليمي ترجّح السيناريو الأول، وهو دعم عملي لمقترح الحكم الذاتي، ضغط متدرج على البوليساريو، وتعزيز استثمارات في الصحراء لترسيخ السيادة المغربية على الأرض. حيث تدرك الرباط أنه إذا ما وصلت خطة الحكم الذاتي إلى تفاصيل مؤسِّسة —آليات حكم، تقاسم صلاحيات، إدماج سكان المخيمات بترتيبات إنسانية–اقتصادية— فإن مسار واشنطن نحو “تطبيع نهائي” مع واقع السيادة المغربية سيصبح أسهل، حتى دون تصنيف للبوليساريو إرهابية. أمّا إن تأخر التفصيل وبقي الخطاب عامًا، فسيبقى التصنيف الكامل معلقًا، وتستمر أدوات الضغط الجزئية.

وفي الختام، يتجلى لنا تحوّل اللوبي المغربي في أمريكا إلى أداة استراتيجية لربط الصحراء بقضايا الأمن والطاقة والتجارة العابرة للأطلسي، مع شركات صناعة الرأي العام في واشنطن، بغرض صياغة خطاب متعدد الأوجه يخاطب كل مؤسسة أمريكية بلغتها الخاصة. في رأيي، من المستحيل أن نشهد في المستقبل القريب تصنيفًا كاملاً للبوليساريو كمنظمة إرهابية، لكن يرجّح أن واشنطن ستواصل تثبيت الاعتراف بسيادة المغرب ودفع الملف نحو تسوية قائمة على الحكم الذاتي. ومع اقتراب ذكرى المسيرة الخضراء (6 نوفمبر 2025)، قد يجد البيت الأبيض في هذا التوقيت فرصة لإظهار “إنجاز دبلوماسي” يُرضي الرباط ويعزز صورة واشنطن كقوة قادرة على إنهاء نزاع مزمن عمره نصف قرن. ولا ننسى أنه قد يكون في ذلك مشهد انتصار آخر للرئيس ترامب، الذي ما انفكّ يظهر نفسه كالرئيس القادر على إنهاء الحروب والنزاعات المزمنة، في سبيل دعايته الذاتية نحو جائزة نوبل للسلام.

شارك

مقالات ذات صلة