مدونات
للكاتب: عماد الدين الغزالي
ولد في مخيّمٍ لا تسكنه منازلٌ وحدها، بل تؤوي إليه ذاكرةُ شعبٍ كله؛ وُلد أنس جمال محمود الشريف في الثالث من ديسمبر/كانون الأول 1996 في مخيّم جباليا شمال قطاع غزة، ثمّ نشأ بين مدارس الأونروا وفصولٍ حملت اسم الصمود قبل أن تحمل دروسها اسمه. طفولةٌ بسيطة، وضميرٌ مبكّر. كان أنس طفلاً لم يطلب من الحياة إلا أن تُسمعها، فرباه مخيّمٌ علّمه أن تُرى الحقيقة ولا تُختبأ؛ محيطٌ تفتحت فيه عيناه على صور النزوح، وعلى لآلئِ أمٍ وأبٍ صامدين.
تخرّج من مدارس المخيم، وفي قلبه صارت الكاميرا لغةً والنصُّ مسرىً للضمير. هذه التربة، التي لا تغرف إلا من الألم، صنعت من الشابِّ مراسلاً لا يهاب الإصغاء إلى وجع الآخرين.
دربُ الدراسة: من الجامعة إلى الميدان
عام 2014 التحق بقسم الصحافة والإعلام في جامعة الأقصى، قسم الإذاعة والتلفزيون، حيث صقل أدواته النظرية قبل أن يختبرها في الميدان. لم يكن انتسابُه للإعلام نهاية الحكاية، بل بداية تكرّسٍ ومثابرة؛ تطوّع أولاً في “شبكة الشمال” الإعلامية، ثمّ خطَا بخطى ثابتة إلى مؤسسةٍ باتت بعد ذلك مرآة صوته: قناة “الجزيرة”.
الميدانُ هوَ بيته
انفتح أنس على الميدان كأثرٍ لا يُمحى؛ بدأ يغطي جنوب وشمال القطاع، وخصوصاً مشاهدَ القصف واللاجئين والبيوتِ المنهارة. لم يكن يغادر الشمال حين أمرته رسائل التهديد أن يرحل — لقد صرخ في وجه الخوف بعنفوان الصحافي الذي رُبّي على إيمانٍ بأنّ للحقِّ من ينقله. خلال تغطيته أصيب مرّةً بشظاياٍ في بطنه أثناء تقاريرٍ شعبية، لكنّ إصابته لم تكن لتخرجه من الميدان؛ بل زادته إصراراً على البقاء هناك.
ألم العائلة: موتٌ طاول القلب
في ديسمبر/كانون الأول 2023 استهدفت طائرة منزل عائلة الشريف في مخيم جباليا؛ فقد والده جمال، وهنا تحول الألم إلى روايةٍ تُنقَل علناً: لم تُفلح محاولات الصمتِ في إيقافه، بل زادته إصراراً على نقل ما يرى، واعتبر أن واجبه الصحافيّ لا يخصّه وحده بل يُعِيش ذاكرةَ أهل بلده.
بين الاتّهام والصمود
على مدى أشهرٍ تكرّرت الاتّهاماتُ الرسميةُ التي طالته؛ اتهمه جيشٌ بمزاعمٍ عن تموضعٍ سياسيٍّ مسلّح، فيما ردّت مؤسساته ومنظماتُ حماية الصحافة بأنّ هذه الحملات تُهيّئ لشيءٍ أخطر: تبرير استهدافٍ مباشرٍ لمن ينقل الحقيقة. أنس رفض تلك الاتهامات علناً وواصل الظهور، مفضّلاً أن يكون وجهَه وقِصّته شاهداً بدل أن يتحوّل صدىً مُطهّراً على لسان غيره.
آخرُ مشهدٍ: خيمةٌ عند مدخل الشفاء
في مساء العاشر من أغسطس/آب 2025 تغيّرتْ الدقائق عالماً. خيمةٌ للصحفيين قرب مدخل مجمّع الشفاء الطبي في مدينة غزة كانت مكانَه وآخرَ زملائه؛ هناك، استهدفته طائرةٌ أو طائرةٌ مُسيّرةٌ، فكانت النهاية لغرفةٍ كانت تُسجل لحظةً بلحظةٍ مشاهدَ الجوعِ والدمار. استشهد أنس مع عددٍ من زملائه بينهم محمد قريقع وإبراهيم ظاهر ومحمد نوفل ومؤمن عليوة، وراح خبرُ مقتله يركضُ في العالمِ معلناً اغتيال صوتٍ كان يعلن عن أصواتٍ كثيرة.
كلماتٌ أخيرة: وصيةٌ لا تُنسى
قبل أن تنطفئ كاميرته الأخيرة ترك أنس رسالةً قصيرةً، صاغها كأنّها وصيةً إلى كلِّ من يطالعه: “إن وصلتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي”، ثم أوصى بفلسطين، وبعائلته: زوجته وطفليه، وبأن تمضي الرسالة حيّةً في قلوب الذين لا يزالون قادرين على الكلام. كانت الوصية بيانًا صحفيًّا أخيرًا، ولكنها أيضًا عهدٌ إنسانيٌّ لا يزول مع الجثمان.
ردودٌ عالميةٌ وصدى الإدانة
لم تمضِ ساعاتٌ حتى اجتمعت إدانةُ منظماتٍ دولية: لجنة حماية الصحفيين ومنظمات حقوقية ووسائلُ إعلامٍ دولية وصفت القضيّة بأنها استهدافٌ خطيرٌ لمهنيي الإعلام في ساحةٍ تحوَّلت فيها الكاميراتُ إلى ما يشبه العينَ الوحيدة للرصد. أمستْ واقعة استشهاد أنس علامةً إضافيةً تُطرحُ في سجالات الحريات الصحفية وقوانين الحرب والالتزام بحماية المنتمين للصحافة.
ما تركه أنس: عينٌ لا تنطفئ
ما تبقى من أنس ليس مجرد صورٍ على شاشاتٍ أو فيديوهات تُعاد، بل هو حالةُ التزامٍ مُجتمعيٍّ بالحقّ في المعرفة؛ كان شابّاً من مخيمٍ، صارَ مرآةً تتصدّى لمحرّكٍ عاتٍ. قصّته، من مولده في رصيفٍ لا يَعرف الهدوء إلى استشهاده تحت سقفٍ من نارٍ وصمتٍ، تُعلّمنا أنَّ الإعلامَ في ساحات الصراع ليس مجرد نقلٍ، بل فعلُ بشرٍ يختار المُواجهة بدل الهرب، ويقدّم حياته ثمنًا لصوتٍ لا يقبل أن يكون مطموساً.
خاتمةٌ لا تسأل عن جواب
أنس الشريف رحل، لكنّ السرد لم ينقطع؛ فكلّ مرةٍ نعيد قراءة لقطاتِه، كلما سمِعنا مقطعاً من صوته، نبقى أمام سؤالٍ واحدٍ مربكٍ: من يجرؤ على إسكات الحقيقة حين تُنطق باسم إنسانٍ؟ إنّا نذكره ليس تكريماً لشخصٍ واحدٍ فحسب، بل لعهدٍ صار واجباً على كلِّ من يأخذ القلم أو الكاميرا: أن يقف حيث يستحقُّ الوقوفُ، وأن يُسمع حيث تُمحَصُ الأصوات.

