آراء
الأسبوع الماضي كتبت عن “مشاهد فاضحة من الحضيض الذي وصلنا إليه” في علاقتنا بالكيان المحتلّ، والذي تستمر إبادته الجماعيّة لأشقائنا الفلسطينيين في قطاع غزّة، وسرقة ما تبقى من أرض الضفة الغربيّة المحتلّة، واعتداءاته المتكرّرة المستبيحة لليمن وسوريا ولبنان، وإعلان رئيس وزرائه أنّه في “مهمّة تاريخيّة وروحيّة” لتحقيق حلم إسرائيل الكبرى المزعومة من النيل إلى الفرات.. في ظلّ كلّ ذلك وغيره، ومع تكرار بيانات الاستنكار والإدانة المعتادة والهزيلة والمهينة، تمَّ توقيع اتفاقٍ جديد بتمديد استيراد الغاز الذي يسرقه المحتلّ من المياه الإقليميّة الفلسطينيّة شرق البحر المتوسط ويبيعه لنا ليربح من الاتفاق الجديد وحده حوالي ٣٥ مليار دولار، هذا التمديد الذي يدافع عنه من يدافعون بمنطقٍ نفعيٍّ انتهازيٍّ متدنٍّ لن يتطرق أحدهم للسبب الفعلي وراء تمديد اتفاق ساري لـ ٥ إلى ٧ سنوات قادمة تقريبًا، ليستمر بذلك ١٠ سنوات إضافية من تاريخ استكمال المرحلة الأولى أو حتى استهلاك كامل الكميّة المتفق عليها أيّهما أقرب، وبذلك يستمر الاتفاق حتى نهاية عام ٢٠٤٠ مع إمكانية تمديد إضافي لعامين إذا لم يتم استهلاك الكميّة المتبقية في نهاية المدة، هذا في الوقت الذي تلغي دول أوروبيّة ولاتينيّة اتفاقيات قائمة بالفعل مع الكيان المحتلّ، ويتصاعد ضده الغضب الشعبيّ وأحيانًا الرسميّ إلى الحد الذي دفع منذ عدة أيام وزير خارجية هولندا للاستقالة اعتراضًا على عدم موافقة حكومة بلاده على تشديد العقوبات على الكيان المحتل، وهي الاستقالة التي تبعها استقالة ٤ وزراء و٤ وزراء بالإنابة من الحكومة الهولنديّة تضامنًا مع زميلهم ومشاركةً له في موقفه السياسي والأخلاقيّ التاريخيّ، والذي لم يخطر على بال مسئولٍ عربيّ واحد، وهذا ما يقودنا إلى البحث عن السؤال الذي طرحته في نهاية مقال الأسبوع الماضي ليكون موضوعًا لمقال هذا الأسبوع: “ما العمل للخروج من هذا الحضيض؟”.
ويجدر التنويه أنّني لا أقصد في إجابتي الكتابة عن نوعين من الحلول، الأول هو الحلول الجزئيّة والوقتيّة، والتي يغلب عليها الطابع الشكليّ أو حتى التجميليّ أحيانًا، ولا ترقى لأن تكون مجالًا للكلمات التي تستحق أن تُكتب أمام مشاهد الصمود الأسطوريّ للمقاومة الفلسطينيّة الملهمة، والتضحيات المذهلة للشعب الفلسطينيّ العظيم، كما لا أنوي في الوقت ذاته الكتابة عن الحلول المستحيلة في ظلّ بنية السلطة الحالية في وطننا، والتوجهات والانحيازات الواضحة لها من واقع تجربة حكمها الممتدة منذ أكثر من ١١ سنة، كما أنّني سأختصر الكتابة في موضوعين رئيسين يمثلان -في رأيي- الحل الحقيقيّ في الإجابة عن السؤال السابق ليس فقط فيما يخص إصلاح العلاقة المختلة مع الكيان المحتلّ، وإنّما في حل معظم مشكلات الدولة المصريّة، وتخفيف ثمَّ إنهاء معاناة المواطنين المصريين.
فأولًا: يحتاج وطننا إلى إنجاز مرحلة التحوّل المدنيّ الديمقراطيّ الذي يقود إلى تمكين الشعب بالفعل لا بالقول أن يكون هو السيّد في الوطن السيّد كما ينص دستور بلدنا، إذ إنّ هذا الطريق وحده الذي يأتي بسلطة تستمدُّ شرعيتها من تمثيلها للإرادة الحرَّة للأغلبيّة الشعبيّة عبر انتخابات تتوفر لها كل شروط النزاهة والشفافية المتعارف عليها دوليًّا، ولا شك في أنّ الأغلبيّة الساحقة من الشعب المصريّ تعتبر الكيان المحتلّ عدوه الأول والتاريخيّ، ولا يغيّر من هذه الحقيقة معاهدة كامب ديفيد، وبينما لا تطلب تلك الأغلبيّة من السلطة إعلان الحرب على كيان الإحتلال فإنّها لا ترضى في الوقت ذاته تخويفنا وإرعابنا منها، لأنّ كُلفة تجنب دخول حرب تُفرض على أيّة دولة كبيرة وعريقة وصاحبة تاريخ ودور محوري في إقليمها تبقى أكبر بكثير من تكلفة خوضها، ومع ذلك فإنّ المسافة كبيرة جدًّا بين الهوان والحرب، وهناك من الخطوات السياسيّة والدبلوماسيّة والاقتصاديّة (تجاريّة وسياحيّة.. وغيرهما)، ما يمكن اتخاذه لتصحيح هذا الوضع الذي يُسبب للدولة المصرية خسائر فادحة على مستوى المصالح الوطنيّة والمكانة الإقليميّة والقيم الأخلاقيّة والإنسانيّة. كما يجدر تذكير هؤلاء الذين يستخدمون النهج البراجماتي الصرف ويسقطون كلّ الاعتبارات القيمية بأنّه حتى وفقًا لطريقتهم في التحليل فإنّك إذا لم تساعد شقيقك وجارك اليوم وهو يحارب عدوه وعدوك بيده فسوف تضطر لمحاربته أنت بيدك في يوم قد يكون قريبًا أو بعيدًا لا نعلم، في ظل القناعات المستقرّة لدى أغلبية مستوطني الكيان المحتلّ، لا الحكومة الحالية فقط كما يحاول أن يُروج المرجفون والمُدَلِّسُون. وإنّ تجنب هذه الحرب يبقى رهنًا بشكلٍ أساسيّ بعاملين، الأول أعلى درجات الجاهزيّة من حيث الروح الوطنيّة (في هذا كلام تفصيلي له مقام آخر) ومن حيث الردع الذي تفرضه كلّ مقومات القدرة الشاملة للدولة وفي مقدمتها القدرات العسكرية، والتي شهدت تطورًا مهمًا وضروريًّا ومحمودًا في السنوات الأخيرة تحديدًا، فالاستعداد التام للحرب ضروريّ لتجنبها، أمّا العامل الثاني الذي يتكامل مع الأول فهو إنكسار المشروع الصهيونيّ الاستعماريّ في المنطقة، وهو ما تجاهد المقاومة الفلسطينيّة والشعب الفلسطينيّ لفعله منفردين تقريبًا، إلّا من بعض الدعم الممكن من أقلّيّة، والخذلان أو معاونة المعتدي من الأغلبيّة.
وثانيًا: يحتاج وطننا إلى اتّباع معايير الحكم الرشيد، والتي تقوم على مجموعة من المبادئ التي تمثّل الإطار الأساسيّ لإدارة الشأن العام بشكل كفءٍ وعادل وشفاف، حيث تستخدم هذه المعايير كمؤشراتٍ لتقييم أداء السلطة في تحقيق التنمية المستدامة وحماية حقوق الإنسان بمعناها الشامل، وأهم تلك المعايير وفقًا للأمم المتحدة ثمانية، تبدأ بالمشاركة لتمكين المواطنين من المساهمة في صنع القرار من خلال الانتخابات الحرّة، وحريّة عمل المجتمع المدنيّ والأهليّ. وثانيها سيادة القانون بما يعني وجود نظام قانونيّ عادل تُطبق فيه القوانين على الجميع دون تمييز، مع قضاء مستقل وحماية لحقوق الإنسان. وثالثها الشفافيّة بمعنى وضوح المعلومات وسهولة الوصول إليها، وضمان أن تكون القرارات والإجراءات الحكوميّة متاحة للرقابة عليها. ورابعها المساءلة والتي تستلزم خضوع المسؤولين والمؤسسات للمحاسبة أمام الشعب والجهات الرقابيّة، وضمان تحملهم تبعات أفعالهم. وخامسها التوافق والذي يهدف للسعي لبناء رؤية وطنيّة جامعة تأخذ في الاعتبار مصالح مختلف الفئات في ظل التنوع السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ. وسادسها العدالة والإنصاف التي تضمن استفادة جميع فئات المجتمع من فرص التنمية، مع حماية الفئات الضعيفة والمهمّشة والأولى بالرعاية. وسابعها الفعالية والكفاءة في إدارة الموارد العامة واستغلالها بأفضل الطرق لتحقيق نتائج ملموسة تخدم احتياجات المواطنين. والمعيار الأخير هو الرؤية الاستراتيجية التي تمثّل امتلاك الدولة خطة واضحة وطويلة المدى للتنمية، مع القدرة على استشراف المستقبل وتوجيه السياسات العامة بما يخدم الأجيال القادمة.
هذان كما أرى شرطان ضروريان للسير في الطريق (الأمثل والأسلم) الذي يقودنا إلى الحلّ الجوهريّ للخروج من هذا الحضيض الذي وصلنا إليه، كما أنّهما شرطان لازمان لتكون السلطة في وطننا انعكاسًا حقيقيًّا لضمير ووجدان الشعب المصريّ والمصالح العليا للدولة المصريّة، بحيث تخضع أيّ وكلّ سلطةٍ لإرادة المواطن المصريّ، وتقوى وتتحصّن أمام ضغوط الخارج الذي يتعامل معها باعتبارها في حِلٍّ من الاستجابة لاحتياجات وأولويات الناخب الذي هو في حقيقة الأمر الطرف الأصيل، وما السلطة عنه سوى وكيلٍ يجب أن يعمل وفق الدستور والقانون اللذين يحددان كافة شروط الوكالة، ومدّتها.






