سياسة
منذ ولادتها المستقلة عام 1948 بعد الانفصال عن الليرة اللبنانية، ارتدت الليرة السورية أثواباً متغيّرة حملت في طياتها حكاية بلد بأكمله. ظهرت أولاً مزدانة بالآثار والقلاع الشامخة رمزاً لحضارة ضاربة في التاريخ، ثم حلّت صور عائلة الأسد المخلوع على وجوهها لتغدو أداة سياسية بقدر ما هي وسيلة للتبادل. ومع مطلع الألفية، جاءت تصاميم أكثر عصرية تحمل تدمر وقلعة حلب، محاولةً بث روح وطنية في ورق مهترئ تحت ضغط التضخم. وفي عام 2007 رُبطت بحقوق السحب الخاصة (Special Drawing Rights) في محاولة لمنحها حصانة نسبية من تقلّبات الدولار، حيث تم ربطها بسلة عملات كالدولار الأمريكي واليورو والين الياباني واليوان الصيني. لكن الثورة السورية وما تبعها من حصار وانهيار اقتصادي أطاحت بجدوى الربط، فتحولت الفواتير إلى ملايين والرواتب إلى أرقام عاجزة. اليوم، تتأهب الليرة لدورة جديدة، لعلها تستعيد شيئاً من حضورها ورمزيتها، ولو على مستوى الشكل، بعدما تقوّضت مكانتها كأداة للقوة الشرائية.
حيث تواردت التصريحات مؤخراً عن نية الحكومة السورية الحالية إعادة تقييم الليرة السورية عبر حذف صفرين من فئاتها وإطلاق هوية بصرية جديدة مع إصدار أوراق نقدية بديلة، بهدف تبسيط التعاملات واستعادة قدر من الثقة العامة بعد فقدان الليرة أكثر من 99% من قيمتها منذ عام 2011. وتم الإشارة إلى أن التنفيذ يستلزم طباعة فئات جديدة وفترة ازدواج تداول مؤقتة بين العملة الجديدة والقديمة.
تسارع انخفاض الليرة السورية في السوق الموازية، من نحو 47-50 ليرة لكل دولار قبل عام 2011 إلى آلاف ثم عشرات الآلاف بعد 2020، مع موجات قياسية في 2023-2024، حيث بلغ سعر صرف الليرة السورية بتاريخ 21 آب/ أغسطس الجاري 10400 ليرة مقابل الدولار الواحد، ما يعطي فكرة عن مستوى التقزّم الاسمي للوحدة النقدية وحجم الأرقام في الفواتير اليومية.
إلا أنّ حذف صفرين من العملة ليس أكثر من لعبة أرقام، وهو أشبه بتغيير المسطرة التي نقيس بها قطعة خشب دون أن يمسّ ذلك طول الخشبة ذاتها. أي هو تحويل قياسي للوحدات، بقسمة جميع الأرقام الاسمية على 100، فإذا كان ثمن الكيلو من مادة ما 12.000 ليرة سورية يصبح 120 ليرة جديدة. إلا أن القوة الشرائية لا تتبدل لحظة التحويل، فالحياة تظل على غلائها أو رخصها كما كانت، وما يتغيّر هو المظهر الخارجي وحجم الأرقام في الفواتير والرواتب. إنها عملية تجميلية للرموز النقدية، وليست جراحة في الجسد الاقتصادي، أمّا الأثر الحقيقي فيبقى رهن السياسات التي ترافق الخطوة.
ورغم أن حذف الأصفار يبدو مجرد تعديل حسابي بارد، إلا أن أثره يتجاوز جداول الأرقام ليصل إلى سلوك الناس والمؤسسات. فهو أولاً يخفّف عبء التعامل مع الأعداد الضخمة التي أثقلت دفاتر المحاسبة وأربكت أجهزة الدفع الإلكتروني وحدود البرامج الرقمية. وثانياً يمنح الناس إيحاءً نفسياً ببداية عهد نقدي جديد، شرط أن يترافق مع سياسة واضحة للسيطرة على التضخم. وثالثاً يتيح فرصة لتجديد أوراق النقد المهترئة والمزوّرة، وتوحيد جداول الضرائب والرسوم بشكل أوضح. غير أن كل هذه المكاسب سرعان ما تتبخر إذا لم تُدعَم بسياسة نقدية مستقلة وحازمة، ومالية منضبطة. فالثوب الجديد لا يُخفي ضعف الجسد، ولا يجمّل عجزه؛ إنما يُظهر الانضباط فقط حين يكون الانضباط موجوداً أصلاً.
حذفت تركيا عام 2005 ستة أصفار من العملة فصارت ليرة واحدة جديدة تساوي مليون ليرة قديمة، ضمن برنامج شامل لإصلاح السياسة النقدية والمالية والحوكمة. نُفّذ الانتقال بشكل مدروس مع تسعير مزدوج لفترة مؤقتة. نجحت التجربة إدارياً ونقدياً بفضل الإصلاحات الموازية العميقة، ما يوضح أن الحذف وحده لا يكفي بدون إطار شامل.
فيما حاولت زيمبابوي عام 2008 بالقيام بخطوة مشابهة، فحذفت الأصفار من عملتها المتضخمة، دون معالجة السياسة النقدية والمالية من جذورها، ما أدى بها خلال بضعة أشهر إلى انهيار كبير للعملة والانتهاء بالدولرة الواسعة، بعد ما فقدت عملتها المحلية قيمتها بشكل كبير جداً، ما يحذر بأن حذف الأصفار بلا استقرار مالي كلي يعيد المشكلة ويوسعها.
أما في الحالة السورية فلا يخفى أن اقتصادها بحاجة ماسة إلى برنامج إصلاح جذري، يعتمد على سياسات نقدية ومالية واضحة متشددة، في إطار من الحوكمة، ومنح البنك المركزي استقلالاً تشغيلياً وحرية في استخدام أدواته النقدية (سعر فائدة، سقوف ائتمان، عمليات سوق مفتوحة، ضبط نمو الكتلة النقدية، وربط تواصلي بسلة أهداف واقعية للتضخم). وإلغاء التشوهات بين سعر الصرف الرسمي والموازي، ما يضمن تجفيف أوكار المضاربات وتحكمها في سعر العملة والدولار الأمريكي في الأسواق، والعمل على بناء احتياطيات وقواعد تدخل، تمنح المصرف المركزي القدرة على ضبط أسعار الصرف والتدخل في الأزمات ما يمنع الانهيار من جديد.
كما أن اعتماد سياسة مالية منضبطة لتقييد العجز الأولي، وتوسيع الوعاء الضريبي بطريقة محايدة، وتجنب التمويل النقدي للعجز الذي يُبطل أي مكاسب من إعادة التقويم، يعد من أساسيات حماية العملة من أن تفقد قيمتها أكثر.
في غياب الإصلاحات الجدية، تنكشف المخاطر بسرعة، توقعات الأسواق تصدم إذا اعتُبر حذف الأصفار مجرد تجميل، فيضعف الطلب على العملة المحلية، وأي تدهور مفاجئ في سعر الصرف يعيد الأرقام الكبيرة بسرعة، بينما يصبح “الزيّ النقدي الجديد” مجرد قناع شفاف يكشف الاختلالات القديمة.
التجربة العملية تثبت أن حذف صفرين خطوة تنظيمية واتصالية تسهّل الحياة اليومية، وتقلّل فوضى الأرقام، وتمنح العملة هوية أكثر أناقة، لكنه ليس علاجاً للتضخم ولا مسرّعاً للنمو بمفرده، وقيمته تتوقف على ما يحيط به من إصلاحات: مصداقية البنك المركزي، ضبط مالي حازم، مسار صرف مستدام، وتوافر سلع وخدمات محلية تكفي لتثبيت الأسعار. الدروس المستفادة من تركيا وغانا والبرازيل واضحة: إعادة التقويم تنجح حين تُختتم مساراً إصلاحياً، لا حين تُفتتح مساراً مجهولاً. أما زيمبابوي فتذكّرنا بأن الأصفار تعود إذا بقيت الأسباب قائمة.