سياسة
لم تعد المسألة سلاحًا يُصدَّر أو تصريحًا يُتلى. إنّها طائراتٌ حربيّة إسرائيليّة تهبط سرًّا على أرض بريطانيا، بقرارٍ وزاريّ مباشر، قبل أن تعود لتحلق فوق سماء غزّة وتقصف المدنيين. الدماء في غزّة باتت بخاتم بريطانيّ رسميّ!
في سلسلة تحقيقاتي عن الدور البريطانيّ في حرب الإبادة الإسرائيليّة على غزّة، كتبت عن الكذب والنكوص في قرارات التجميد الجزئي لمكونات السلاح لإسرائيل، كما كتبت عن رحلات التجسُّس والجواسيس من وإلى قاعدة بريطانية في قبرص، من وإلى إسرائيل، وفوق غزّة والأراضي الفلسطينيّة المحتلّة واجتماعات بين قادة المخابرات البريطانية MI6 و CIA الأمريكيّة. اليوم أضع الموقف الحكوميّ تحت دائرة الضوء المجهري، لأكشف الموقفين السياسيّ والدبلوماسيّ بلا قُفّاز أبيض منمّق، أميط اللثام عن دور حكومة لندن في إعاقة مسار وقف إطلاق النار داخل مجلس الأمن وتحركها تحت راية واشنطن المنحازة تمترسا خلف إسرائيل المحتلّة.
لكن عدّة أدلة تشير إلى ما هو أخطر من ذلك – اقتفيت عددًا من الأدلة والقرائن تشير إلى تورّط بريطانيا في المشاركة المباشرة، بأمرٍ حكوميّ في جريمة الإبادة بالسماح لطيران حربي إسرائيلي بالهبوط سرًّا في قواعد بريطانيّة! فهل يعقل هذا؟ أحقق.
BAE منظومات بريطانيّة واتفاقات تسليح مع وزارة الدفاع الإسرائيلية
لا يمكن البدء في إثبات هذه الفرضية بالأدلة والبراهين والقرائن، من دون النظر في اللوبيات وشبكات النفوذ المرتبطة عضويًّا بالصناعات الدفاعية البريطانية والنواب، ومن ثمّ الناخبين المحافظين والعمال في آنٍ معًا. من أنكر حضورًا مهولًا لجماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل مضلّل حقيقيّ. في الملف العسكريّ التجاريّ تكشف السجلات الرسميّة أنّ توسعة صفقات BAE Systems البريطانيّة مع وزارة الدفاع الإسرائيليّة، بالتوازي مع شراكاتها التقنية مع شركة Elbit Systems، لم تتوقّف في سنوات الحرب، بل زادت قيمتها في مرحلة ما بعد السابع من أكتوبر. هذه الصفقات لا تقتصر على المكوّنات الإلكترونيّة والبصريّة لطائرات F-35، بل تمتد إلى أنظمة اتصالات، وتكنولوجيا مراقبة تُستخدم مباشرة في غزّة. هنا لا أتحدث عن تجارة تقليديّة للتسليح، بل عن سلسلة إمداد متكاملة تربط مصانع بريطانيّة بترسانة تُستخدم في عمليات ترقى إلى جرائم تطهير عرقيّ وطبعًا بجريمة الإبادة الجماعيّة.
تشير سجلات جماعة “Campaign Against Arms Trade” إلى أنّ الصناعة البريطانيّة كانت وراء نحو 15 ٪ من قيمة أجزاء طائرات F‑35 التي تستخدمها إسرائيل في قصف غزّة، وتُقدّر قيمة هذه المكوّنات بما لا يقلّ عن 336 مليون جنيه إسترليني منذ عام 2016. كما تُشير تقديرات البرلمان البريطانيّ إلى أنّ تراخيص تصدير الأسلحة من المملكة المتحدة إلى إسرائيل بلغت قيمتها ما يربو على 474 مليون جنيه إسترلينيّ منذ عام 2015.
الطائرة (Re’em 272) ِAXHM) في قاعدة RAF Brize Norton البريطانيّة سرا!
بعد أن وضعنا الأصبع على القرار الوزاريّ البريطانيّ، اقتفيت الرحلات كما قمت بذلك في الرحلة المشبوهة RRR9943 التي عُرِفت بعد تحقيقنا في سطور في بعض وسائل الإعلام العربيّة ب Shadow R1 من قاعدة RAF AKROTIRI البريطانيّة في قبرص في مئات رحلات التجسّس والإنزال في إسرائيل والأراضي الفلسطينيّة المحتلة.
تتبعت هذه المرّة بالأدلة الرقمية OSINT بيانات الملاحة الجويّة على (ADS-B Exchange, FlightRadar24, Globe ADS-B)، والتي ترمز جميعها لمطار بن جوريون ب LLBG بالكود الجوي TLV، وبتحليل وبيانات مسار الطائرات الإسرائيليّة وجدت التالي:
حصلت على إذن هبوط خاص، رغم أنّ القاعدة مخصصة للعمليات البريطانيّة الحساسة.
وبالعودة إلى بيانات أغسطس ٢٠٢٥، يظهر أنّ نفس الطائرة ( Shadow R1 ) شوهدت فوق سماء غزّة أثناء إحدى أعنف موجات القصف. هكذا يتحوّل الخطّ البياني على الرادار إلى دليل إدانة: نفس الطائرة التي باركتها بريطانيا بالهبوط (انتبهوا)، عادت لتصبّ حممها على المدنيين.
التحليل العسكريّ يوضح أنّ مثل هذه الطائرات تُستخدم لنقل معدات متطورة وذخائر ثقيلة، أو لعمليات استخباراتيّة مشتركة. أي أنّ قرار السماح لها بالهبوط في بريطانيا لم يكن مجرّد “مجاملة دبلوماسيّة”، بل مشاركة مباشرة في تغذية ماكينة الحرب. الزميل مات كينارد Matt Kennard تتبع طائرة مقاتلة حربيّة إسرائيليّة حلّقت في الخامسة صباح ١٥ أغسطس الجاري فوق غزّة، لتسهيل تكثيف القصف على المدينة المنكوبة، هي ذاتها التي سمح لها كيرستارمر رئيس الوزراء أن تهبط سرًّا في قاعدة RAF Brize في Norton ب أكسفورد شاير في السادس من مارس بأمرٍ وزاريّ. تغريدة أخرى من Richard Medhurst تتحدّث عن فيديو يُظهر طائرة إسرائيليّة تهبط للتزود الجوي (refuelling plane) ثمّ تقلع من RAF Brize Norton متجهة لإسرائيل في 6 مارس 2025. بالمناسبة ريتشارد اعتقل ل٢٤ ساعة بعد نشره معلومات مماثلة في أغسطس ٢٠٢٤.
ليست مرّة وحيدة
كما رصدْتُ لمزيد من التحقّق في تمام الثامنة و١٣ دقيقة صباح الأحد ١٧ أغسطس أكثر من ١٦ مقاتلة إسرائيليّة تحلّق فوق مدينة غزة، في تكثيف للهجمات الجويّة الإسرائيليّة فوق الخصر الشمالي والوسطي للقطاع، في مخطط واضح لإخلاء مدينة غزة، ولإجلاء السكان باتجاه جنوب المدينة، وتدريجيًّا للقطاع باتجاه حدوده الجنوبيّة. وهي طائرات إسرائيليّة 739 ZZZZZZZZZ -4XCDJ – 4XGV 55 – TVR4719 – N888DY وبعضها لم يرصد من قبل، ما يعني إمّا إعطاءه كودًا حركيًّا للتمويه، أو أنّه يحلّق فوق غزّة بشكل غير قانوني بعلم دول غربيّة بخلاف إسرائيل. بينها طائرات نقل بريطانيّة منشور عنها في تقرير سلاح الجو الملكي البريطانّي المرفق أعلاه. والساسة البريطانيون يؤكّدون كلّ يوم أنّهم ملتزمون بالوقف الجزئي للتسليح الإسرائيليّ، بينما هم أنفسهم يشاركون في رحلات (التجسّس) التي كشفناها أنا وزملاء، واضطرت تقارير الملاحة الملكيّة في تقاريرها تحت ضغط الصحافة حتى بعد مذبحة النصيرات استئنافها.
الحكومة البريطانيّة أمام القضاء
تضاعفت المخاوف بعد أن اعترفت الحكومة البريطانيّة، بأنّها في الرابع والعشرين من نوفمبر ٢٠٢٤ أنّه وبتحقيقها هي ذاتها أقرّت بريطانيا بذلك في المحكمة ما كشفته AOAV وهو:
المعنى السياسيّ – القانونيّ
1.تواطؤ بريطانيّ غير مباشر:
2.انتهاك الالتزامات:
3.القانون الدولي:
كيف يتقاطع ذلك مع تحقيقي حول الرحلة RRR9943؟
لم يكن السماح لطائرةٍ إسرائيليّة بالهبوط في قاعدة RAF Brize Norton استثناءً منفردًا. الأدلة تكشف نمطًا أشمل من التواطؤ البريطاني. ففي تقرير موثق لـ AOAV – Action on Armed Violence، جرى تحليل حركة أسطول طائرات Shadow R1 البريطانيّة. هذه الطائرات ليست “مراقبة عابرة”، بل أنظمة استطلاع إلكترونيّ متطورة، قادرة على جمع صور وبيانات دقيقة تُستخدم لتوجيه الضربات. وبذلك، يصبح دعم بريطانيا لإسرائيل ليس مجرّد توقيع على رخصة هبوط، بل مشاركة مباشرة بطائراتٍ وأطقم بريطانية في المجال الجوي للمعركة.
الترابط بين هبوط الطائرة القاتلة في أوكسفوردشاير وبين تحليق أسطول Shadow R1 قبل مجزرة النصيرات يرسم ملامح واضحة:
هذا النمط يطرح سؤالًا لا مفرّ منه: إذا كانت الطائرات البريطانيّة نفسها تحلّق في الأجواء قبل المجازر، وإذا كانت الحكومة البريطانيّة سمحت لطائراتٍ إسرائيلية قاتلة بالهبوط على أرضها، فهل يظلّ هذا تواطؤًا غير مباشر، أم أنّنا أمام مشاركة فعليّة تضع الوزراء في خانة المشتبهين بجرائم حرب؟
المعادلة صارت واضحة:
في العلن، ترفع بريطانيا شعار حماية المدنيين وتعلن تجميد بعض تراخيص السلاح لإسرائيل. في السر، تفتح أبواب RAF Brize Norton أمام الطائرات الإسرائيليّة، وتطلق طائراتها الاستخبارية Shadow R1 في الأجواء قبل المجازر. هذا التناقض لم يعد تفصيلًا دبلوماسيًّا، بل صار ازدواجيّة قاتلة: لغة حقوق إنسان في البرلمان، مقابل تعاون عسكريّ على الأرض والجو.
حتى الصحافة البريطانية الناقدة — من Guardian إلى Declassified UK وMiddle East Eye — بدأت ترسم صورة مغايرة للرواية الرسميّة: حكومة تستغل شعارات الأخلاق فيما أياديها غارقة في النفط والدماء.
الخاتمة: من حكومة إلى متهمين بجرائم حرب
منذ هبوط الطائرة القاتلة في أوكسفوردشاير وحتى طلعات Shadow R1 قبل النصيرات، نسجت بريطانيا خيوط تورّطها خيطًا خيطًا. وزراء وقّعوا، مؤسسات وفّرت الغطاء، وأطقم بريطانية ساهمت بجهد استخباريّ.
السؤال لم يعد “هل تواطأت بريطانيا؟” — السؤال الآن: هل يتحمل الوزراء البريطانيون مسؤولية قانونيّة مباشرة عن جرائم حرب؟
إذا لم تُحاسب الحكومات على هذه الأفعال، من سيحاسب؟ وإذا بقيت الأدلة الرقمية مجرد تقارير صحفية، فمن سيحوّلها إلى ملفات قانونيّة؟
الطائرة نفسها التي قصفت غزّة وجدت في بريطانيا أرضًا آمنة. وهذا ليس رمزًا للتواطؤ فحسب، بل بذرة لائحة اتهام قد تضع وزراء بريطانيّين — للمرّة الأولى — في مرمى المحكمة الجنائيّة الدوليّة.
من أعطى إذن الطائرة الإسرائيلية (Re’em 272) للهبوط في RAF Brize Norto؟ من يملك صلاحية السماح بالهبوط؟
أسائل الحكومة البريطانية، وقد كاتبت مجلس العموم وبانتظار الإجابة للنشر ضمن الحق في الحصول على المعلومات:
خلاصة
لم يعد ما كشفته وقائع منفصلة — مسارات جويّة مرصودة، أو وثائق برلمانية من Hansard، أو تقارير استقصائيّة متفرقة. الصورة التي تتجمع الآن واضحة: بريطانيا لم تكن مجرّد متفرج على حرب الإبادة في غزّة، بل تحوّلت إلى شريك فعليّ عبر التسهيلات العسكريّة والسياسيّة. هنا يصبح التحقيق ليس مجرّد كشف صحفي، بل شهادة محتملة أمام المحكمة الجنائيّة الدوليّة. فإذا كان وزراء يوغوسلافيا قد أدينوا بسبب “التسهيل اللوجستي” للجرائم في يوغوسلافيا، فما الفارق القانوني اليوم عن جرائم الحرب آنذاك؟
بريطانيا التي تتحدّث بلغة حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، هي نفسها التي فتحت مدارجها لـ “الطائرة القاتلة”. من لحظة هبوط Re’em 272 في Brize Norton إلى لحظة قصف النصيرات، الخط ليس سياسيًّا فقط، بل خطّ دمويّ مباشر.
لم تعد الأدلة مقتصرة على شاشات تتبّع الطائرات أو مداولات برلمانيّة مبعثرة. فبعد أشهرٍ من التحقيق، صارت الصورة كاملة: بريطانيا لم تكن مجرّد شريكٍ صامت في حرب الإبادة على غزّة، بل لعبت دورًا عمليًّا، ملموسًا، في تسهيل استمرارها.
في مارس، رصدنا عدد من الصحفيين٬ أنا من بينهم على تحقيقات مختلفة عبر مصادر مفتوحة (ADS-B / FlightRadar) طائرات إسرائيلية تحلّق فوق غزّة، ثمّ تظهر على مدرجات بريطانيا. في مايو ويونيو، كشفت تقارير برلمانيّة جزئيّة عن أسئلة لم يُجَب عنها في Hansard (التقرير الرسميّ للمساجلات البرلمانيّة في مجلس العموم البريطاني)، وعن لجان رقابيّة جرى تجاوزها عمدًا. أمّا في يونيو، فكان الانكشاف الأعظم: الطائرة الإسرائيلية Re’em 272، عمود التزود بالوقود في سلاح الجو الإسرائيليّ، هبطت سرًّا في قاعدة RAF Brize Norton بأوكسفوردشاير.
وزارة الدفاع البريطانية لم تنفِ. لم تفسر. اكتفت بالقول: “من المعتاد أن نسمح لحلفائنا بالهبوط.” لكن المعتاد هنا يعني أنّ الحكومة البريطانية وفّرت لطائرات إسرائيلية البنية التحتية التي سمحت لها بمواصلة التحليق والقصف. كلّ دقيقةٍ إضافية لطائرة فوق سماء غزّة كانت مبنية على إذنٍ وزاريّ بريطانيّ مسبق.
من وزير الدفاع الذي يملك حقّ إصدار التراخيص، إلى وزير الخارجية الذي يمنح الغطاء السياسيّ، وصولًا إلى رئيس الوزراء الذي يتحمل القرار النهائيّ — المسؤولية واضحة، ومكتملة الأركان.
في القانون الدولي، يُسمّى هذا “التسهيل الماديّ” لجرائم حرب. في يوغوسلافيا ورواندا، حوكم وزراء ومسؤولون بسبب قراراتٍ أقلّ وضوحًا من ذلك. فما الذي يمنع اليوم أن يُسأل وزراء بريطانيا عن دورهم أمام المحكمة الجنائيّة الدوليّة؟
الصدمة ليست فقط أنّ بريطانيا وفّرت مدارجها. الصدمة أنّ الطائرة نفسها التي قصفت غزّة، وجدت أرضًا آمنة في بريطانيا. من Brize Norton إلى النصيرات، الخطّ ليس سياسيًّا فقط، بل دمويّ مباشر.
والسؤال الأخير يظلّ معلقًا:
إذا لم يُحاسَب الوزراء الذين سمحوا بهبوط الطائرة الإسرائيليّة، فمن سيُحاسَب إذن؟ متى نرى المسؤولين الثلاثة أمام الجنائيّة الدوليّة أو محكمة خاصة لجريمة بتهمة المشاركة في جريمة الإبادة الجماعية؟ وهي جريمة لا، ولن تسقط بالإبادة.
في التحقيق القادم أعود إلى الكتابة عن قانون الإيجار القديم في مصر.
وتفضّلوا بمتابعة حواراتي الصحفية على الهواء كلّ خميس ٨ مساء بتوقيت القاهرة، في قضايا تغيّر الواقع مع المثقفين، وصناع القرار في المنطقة في ساعة حوار مع رشا قنديل على سطور X