مشاركات سوريا

الكيماوي .. وجه الأسد الأبشع

أغسطس 21, 2025

الكيماوي .. وجه الأسد الأبشع

الكاتب: يوسف الراوي

 

 

 

لم تكن حرب نظام الأسد المجرم ضد السوريين تقليدية، بل حولها إلى مسرح للفظائع التي تجاوزت كل حدود الخيال، وبين كل فصول العنف، برز استخدام الأسلحة الكيميائية من قبل نظام الأسد علامة فارقة على انعدام الإنسانية.

هذه المقالة ليست مجرد سرد للحقائق، بل محاولة لتقديم صورة شاملة وواضحة عن هجمات كيميائية محددة، بدءاً من مجزرة الغوطة المروعة عام 2013، مروراً بهجمات أخرى وثقتها تقارير دولية، وصولاً إلى الشهادات التي تروي قصص ناجين لم يُسمع بها من قبل.

 

 

 

“مجزرة الغوطة”

في فجر يوم 21 آب/ أغسطس 2013، استيقظ سكان الغوطة الشرقية والغربية في ريف دمشق على ما يشبه يوم القيامة، صواريخ محملة بغاز السارين القاتل، وهو غاز أعصاب شديد السمية، أمطرت مناطقهم، كان الهجوم موجهاً بشكل خاص نحو بلدتي زملكا وعين ترما، حيث سقط أكبر عدد من الضحايا.

 

أثارت المجزرة صدمة عالمية، ليس فقط بسبب حجمها الهائل، ولكن بسبب طبيعة ضحاياها. حيث كان عدد الشهداء الذين قدرتهم مصادر مختلفة بما بين 1,144 و1,429 شخصاً، بينهم مئات الأطفال الذين ماتوا اختناقاً في أسرتهم.

تظهر مقاطع الفيديو التي تم تداولها آنذاك أجساد الأطفال المكدسة، بلا أي جروح مرئية، ولكن بعلامات واضحة على التعرض للغاز: ضيق في حدقة العين، زبد أبيض يخرج من الفم، وتشنجات عنيفة.

 

 

 

شهادة من قلب الفاجعة

يقول أمين حابيا، أحد الناجين من المجزرة، لمجلة الجزيرة: “لقد فقدت كل أفراد عائلتي؛ كان الجيران يخرجون من بيوتهم وهم يتخبطون، يصرخون، ثم يسقطون على الأرض؛ الرائحة كانت غريبة، ثم بدأت عيناي تحرقني، ولم أعد قادراً على التنفس”.

قصته تروي جزءاً صغيراً من آلاف القصص التي لم تُروَ بعد، عن عائلات مُسحت من السجل المدني في لحظة واحدة.

 

 

تاريخ من الهجمات الموثقة

مجزرة الغوطة لم تكن الهجوم الكيميائي الوحيد، بل كانت الأكثر دموية ضمن سلسلة طويلة من الهجمات، وفقاً لمنظمات حقوق الإنسان، شن النظام السوري السابق أكثر من 200 هجوم كيميائي خلال حربه الشعواء.

من أبرز هذه الهجمات:

 * هجوم خان شيخون (4 نيسان/ أبريل 2017): غاز السارين أيضاً استُخدم في هذا الهجوم الذي أودى بحياة أكثر من 90 شخصاً؛ أثار هذا الهجوم رد فعل دولياً مباشراً، حيث وجهت الولايات المتحدة ضربة صاروخية على قاعدة الشعيرات الجوية السورية.

 * هجوم دوما (7 نيسان/ أبريل 2018): استُخدم فيه غاز الكلور؛ أظهرت الفيديوهات عشرات الضحايا، معظمهم من النساء والأطفال، وهم يختنقون في أقبية المباني.

 

 

الروايات المتناقضة: الحق والإنكار

في مواجهة الأدلة القاطعة، كان لكل طرف روايته:

 

 رواية الثوار والمجتمع الدولي:

   تجمع غالبية الدول الغربية، ومنظمات حقوق الإنسان مثل الشبكة السورية لحقوق الإنسان (SNHR) وهيومن رايتس ووتش (HRW)، على أن نظام الأسد هو المسؤول الوحيد عن هذه الهجمات.

تستند هذه الرواية إلى أدلة تقنية قدمتها منظمة حظر الأسلحة الكيميائية (OPCW)، والتي أكدت استخدام غاز السارين في الغوطة وخان شيخون، وغاز الكلور في دوما، وأن هذه الأسلحة استخدمت بواسطة قذائف وذخائر تابعة للنظام.

 

 رواية النظام وحلفائه:

   أنكر نظام الأسد وحليفته روسيا بشكل قاطع استخدام الأسلحة الكيميائية؛ وادعى أن الهجمات كانت “مسرحيات” أو “أعمال إرهابية” قامت بها المعارضة لإثارة الرأي العام الدولي.

كانت هذه الرواية تفتقر إلى الأدلة القاطعة وتتعارض مع التحقيقات المستقلة؛ كما وصف المجرم بشار الأسد المزاعم ضده بأنها “تفتقر إلى المنطق ومسيّسة”.

 

 

الصمود في وجه الموت: قصص الأبطال المجهولين

في خضم المأساة، كان هناك أبطال من رحم الألم. فرق الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) وأطباء وممرضون محليون خاطروا بحياتهم لإنقاذ المصابين وتوثيق الجرائم، إذ تعرضت سيارات الإسعاف والمستشفيات نفسها للاستهداف. وفقاً لمنظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان (PHR)، كانت الكوادر الطبية والمرافق الصحية هدفاً مباشراً لهجمات النظام، مما زاد من صعوبة تقديم العلاج للضحايا.

 

 

الآثار الصامتة: الجسد والروح

لا تقتصر آثار الأسلحة الكيميائية على الوفاة الفورية. يعاني الناجون من تبعات صحية ونفسية طويلة الأمد. تشير الدراسات إلى أن الناجين من هجمات السارين يعانون من مشاكل عصبية دائمة، مثل فقدان الذاكرة، والتعب المزمن، ومشاكل في الرؤية. أما الآثار النفسية، مثل اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) والاكتئاب، فهي تلازمهم مدى الحياة.

 

 

العدالة مؤجلة.. ولكنها ليست مستحيلة

على الصعيد الدولي، كانت هناك جهود لمحاسبة المسؤولين، رغم التحديات الهائلة.

وافق نظام الأسد في عام 2013 على تدمير ترسانته الكيميائية بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2118، وهو ما قامت به منظمة OPCW جزئياً.

ولكن بعد انهيار النظام، كشفت تحقيقات OPCW أن النظام كان يمتلك أكثر من 100 موقع كيميائي لم يكشف عنها، مما يؤكد أن الترسانة لم تُدمر بالكامل وأنها كانت أكبر بكثير مما اعترف به؛ هذا الاكتشاف الأخير هو دليل إدانة إضافي وخطير.

 

كما برزت جهود جديدة لمحاسبة المسؤولين، ومنها تشكيل هيئة للعدالة الانتقالية، تهدف إلى محاكمة مرتكبي الجرائم الكبرى، بما فيها الهجمات الكيميائية، في محاولة لضمان أن العدالة لن تموت مع انتهاء الصراع.

 

 

درس قاسٍ للبشرية

كشفت الهجمات الكيميائية في سوريا عن هشاشة الأعراف الدولية وعن استعداد الأنظمة الإجرامية لاستخدام أبشع الأسلحة ضد شعوبها، لكنها أظهرت أيضاً صمود الشعب السوري، وشجاعة الأفراد الذين خاطروا بكل شيء لإنقاذ الآخرين وتوثيق الحقيقة.

في النهاية، لا يمكن للأبخرة السامة أن تحجب الحقيقة.. كل طفل قُتل، وكل ناجٍ يعاني من آثارها الصامتة، يمثل دليلاً حياً على جريمة ضد الإنسانية. ورغم أن العدالة قد تكون بطيئة، فإن تدوين هذه القصص والوقائع يضمن أنها لن تُنسى أبداً.

شارك