سياسة
في قلب الساحة الرئيسية بمدينة السويداء، يقف تمثال سلطان باشا الأطرش شاهداً على تاريخٍ مضى. قبل قرن تقريباً، قاد الأطرش ثورة 1925 ضد الانتداب الفرنسي رافعاً شعار: “الدين لله والوطن للجميع”. لكن المشهد اليوم بدا مختلفاً؛ إذ إن نفس المكان الذي انطلقت منه ثورة ضد التقسيم والاستعمار،شهد مظاهرات رُفعت فيها لافتات مكتوبة بالعربية والعبرية تطالب بالحماية الدولية، بل وظهر علم إسرائيل إلى جانب رايات الطائفة الدرزية، وسط غياب تام للعلم السوري.
عندما فرض الانتداب الفرنسي سيطرته على سوريا بعد الحرب العالمية الأولى، لم يكتف بالاحتلال العسكري، بل حاول إعادة تشكيل البلاد على أسس طائفية. فظهرت مشاريع تقسيم سوريا إلى دويلات: دولة جبل الدروز، دولة العلويين، دولة دمشق، ودولة حلب. كان الهدف إضعاف الهوية الوطنية الجامعة وتحويل المجتمع السوري إلى كيانات مذهبية متناحرة.
ورغم الإغراءات التي قدّمتها فرنسا لزعماء جبل العرب، حيث عرضت على سلطان باشا الأطرش أن يكون حاكم ذاتي لدويلة الدروز في الجبل لكنه رفض هذا رفضاً قاطعاً، واختار أن يقود ثورة وطنية عابرة للطوائف، جمعت المسلمين والمسيحيين والدروز تحت راية واحدة. امتدت الثورة من السويداء إلى دمشق وحمص وحماة وحلب، حتى أصبحت “الثورة السورية الكبرى” علامة فارقة في تاريخ النضال ضد الاستعمار.
تحولت الثورة السورية الكبرى بذلك إلى رمز للوحدة الوطنية، حيث قاتل الثوار من مختلف الطوائف جنباً إلى جنب تحت شعار “الدين لله والوطن للجميع”. وقد كتب الأطرش: “إننا نناضل من أجل سوريا كلها، لا من أجل الجبل وحده”.
تحت شعار “حق تحقيق المصير” خرجت مظاهرات في ساحة السويداء يوم السبت 16 آب/ أغسطس الجاري، طالب فيها المتظاهرون بالحكم الذاتي والانكفاء الطائفي، ووصل الأمر إلى رفع علم الاحتلال الإسرائيلي إلى جانب علم الطائفة الدرزية ورفعت لافتات تطالب بالتدخل الخارجي والحماية الدولية، وبعضها حمل شعار “الشعب يريد دخول إسرائيل” وأخرى “نريد الانضمام إلى إسرائيل” و “شكراً نتنياهو”، كان ذلك كفيلاً بإثارة غضب واسع بين السوريين على مواقع التواصل الاجتماعي، متسائلين: كيف لأحفاد الذين قاوموا الاستعمار الفرنسي و قادوا الثورة السورية الكبرى أن يطالبوا بالتقسيم اليوم؟
شهدت محافظة السويداء تصاعداً خطيراً في العنف خلال تموز/ يوليو الماضي، مع مواجهات دامية بين فصائل درزية محلية، وبين عشائر البدو وقوات الحكومة السورية، أسفرت عن مقتل عدد كبير من المدنيين من أبناء الطائفة الدرزية وأبناء العشائر أيضاً، ومن عناصر وزارتي الدفاع والداخلية السورية. وتخلل الأحداث انتهاكات ضد المدنيين، وتدخل إسرائيلي استهدف مواقع للحكومة السورية، ما فتح الباب أمام تسويات إقليمية بوساطة أمريكية وأردنية تركية.
وفي سياق متصل، تصاعد الخطاب الطائفي بعد دعوات شيخ عقل الدروز، حكمت الهجري، للحماية الدولية وحتى التدخل الإسرائيلي، بينما أعلن شيوخ الطائفة لاحقاً بمن فيهم سامي أبي المنى ويوسف جربوع وحمود الحناوي موقفاً مناهضاً للنظام، مع تحذيرات من “اقتلاع الهوية” وتمسكاً بالتراث النضالي. في حين أن الشيخ ليث البلعوس خاض مفاوضات مع الحكومة السورية وأعلن دعمه لها والوقوف بجانب الحكومة ضد أي تقسيم أو حكم ذاتي أو تدخل خارجي في سوريا، الأزمة تكشف عمق الانقسامات المحلية والتدخلات الخارجية، في مشهد يعكس تهديداً متصاعداً لاستقرار المنطقة.
بعد الاستقلال، بقيت الطائفية كامنة في البنية الاجتماعية والسياسية، لكنها لم تتحول إلى أداة للسلطة إلا مع وصول حافظ الأسد عام 1970. بنى النظام شرعيته على المحسوبيات الطائفية والمناطقية، وجعل الولاء السياسي يمر عبر الانتماء لا عبر الكفاءة والوطنية. في ظل النظام كان هناك فجوة كبيرة بين أبناء الشعب من مختلف الطوائف، فالنظام اتبع فكرة ” فرق تسد” في حكمه. وأظهر العلويين حاضنة شعبية له، وصدر أبناء السنة من الأكثرية السورية أنهم جهاديين وارهابيين وأصحاب فكر متطرف يريدون القضاء على كل من لا يشبههم.
وحين اندلعت الثورة السورية عام 2011، أعاد النظام إنتاج هذا السلاح، فصدّر نفسه حامياً للأقليات، وصوّر الانتفاضة على أنها “مؤامرة طائفية”. بذلك نجح في تحويل الصراع من ثورة سياسية إلى حرب مذهبية، غذّاها تدخل إقليمي ودولي.
التاريخ السوري يعلّمنا أن الطائفية ليست قدراً محتوماً، بل خياراً سياسياً واجتماعياً، فسلطان باشا الأطرش اختار الوحدة والتضحية، بينما يختار بعض أبناء اليوم الانقسام والانكفاء. لكن الحقيقة الثابتة أن الانقسام لا يحمي أحداً، بل يفتح الأبواب لفتن أكبر وتدخل خارجي وفوضى لا نهاية لها.
بعد مرور قرن على الثورة السورية الكبرى، تقف سوريا أمام مفترق طرق شبيه: إما أن تستعيد روح 1925 حيث الوحدة كانت السلاح الأقوى، أو تنزلق إلى دويلات طائفية ومناطقية تعمّق الحرب وتفتح الباب أمام الهيمنة الخارجية.
إن رسالة سلطان باشا الأطرش ما زالت حيّة: الوطن لا يُبنى على الطائفة، بل على العدالة والحرية والمواطنة. فهل يستعيد السوريون هذه الروح، أم تبتلعهم الطائفية في دوامة لا تنتهي؟
بعد قرن من ثورة 1925، تقف سوريا أمام مفترق طرق. الاحتمالات تبدو متباينة:
كل سيناريو يحمل مخاطر، لكن المؤكد أن الانقسام لا يحمي أحداً. بل يفتح الأبواب للفوضى والهيمنة الأجنبية، ويضعف المجتمع من الداخل.
عندما رفع سلطان باشا الأطرش شعاره التاريخي “الدين لله والوطن للجميع”، لم يكن يطلق مجرد كلمات، بل كان يؤسس لرؤية وطنية جمعت السوريين على اختلاف طوائفهم. بعد مئة عام تقريباً، تبدو سوريا كأنها تعيد اختبار الدرس ذاته.
الطائفية ليست قدراً، بل خياراً سياسياً واجتماعياً. والوحدة ليست شعاراً نظرياً، بل تجربة عاشها السوريون بالفعل وأسقطت مشاريع التقسيم. اليوم، إما أن يستعيد السوريون هذه الروح، أو يبتلعهم الانقسام في دوامة لا تنتهي.
يبقى السؤال مفتوحاً: هل تتذكر السويداء، ومعها سوريا، أن الوطن لا يُبنى على الطائفة، بل على العدالة والحرية والمواطنة؟ أم أن التاريخ سيكتب فصلاً جديداً من الانقسام، يكون أكثر مرارة من كل ما سبق؟