أدب
الكاتبة: هبة الله بدر
لم يكن عبد الرحمن منيف كاتب رواية فقط، بل كان مفكراً وحامل هموم وشاهداً على زمن عربي مأزوم. روى هموم الإنسان العربي في رواياته، وجعل من الغربة والمنفى موضوعاً بارزاً، حتى غدا صوته صوت جيل كامل يبحث عن وطن لا ينفي أبناءه ويلغيهم.
يرسم في أُولى رواياته “الأشجار واغتيال مرزوق” لوحة مأساوية تحكي قصة الإنسان العربي المثقف والمقهور، ويستعرض مأساة جيل بأكمله، في وطن تُغتال فيه الأحلام، وتُجتث منه الآمال كما تُجتث الأشجار من الأرض.
منذ صدورها في منتصف السبعينيات، ما زالت الرواية تُقرأ اليوم كما لو أنها كُتبت عن حاضرنا، إذ لم يتغير الكثير، المثقف ما زال مطارداً، البؤس والفقر في كل مكان، الأرض ما زالت تُباع، والأحلام ما زالت تُغتال عند عتبات القهر واليأس.
تنقسم الرواية إلى قسمين، في القسم الأول يروي لقاء في القطار بين منصور ومرزوق، في رحلة محفوفة بالمخاطر، يكشف من خلاله القارئ تجارب الشخصيتين مع الماضي والحاضر، وما واجهاه من انكسارات. وفي القسم الثاني يروي منصور القصة الكاملة لمأساة مرزوق، مركّزاً على تحولات حياته وانهياره الداخلي، حتى لحظة اغتياله الرمزي.
بطل الرواية منصور عبد السلام، مثقف يهتم بالسياسة، يجسد صورة الإنسان العربي المتعلم الذي يملك المعرفة ولا يملك الفرصة، عانى من البطالة والضياع، رغم عمله لفترة أستاذاً للتاريخ، وكان يحلم أن يكتب تاريخاً صادقاً لا يزوّره المنتصرون ولا يطاله التزييف، لكنه دفع مقابل حلمه ثمناً باهظاً، إذ انتهى به المطاف في السجن بسبب مواقفه وآرائه، وعندما أطلق سراحه وجد نفسه مطارداً مجبراً على الهجرة إلى فرنسا. وهناك أدرك أن المنفى الحقيقي لا يبدأ عند الحدود، بل بدأ يوم لفظه وطنه وصار غريباً في بلاده، فيقرر أن يغادر دون رجعة “لم تبقَ إلا ساعات وأغادر الوطن، نعم أغادر الوطن، وربما إلى الأبد، لن أرجع”.
أما مرزوق فهو الوجه الآخر لمنصور، إنسان عادي، مسحوق، انتهت به الحياة إلى الانتحار بعد سلسلة من الإذلال والخذلان. قَتْله ليس فعل شخص، بل نتيجة نظام كامل يُفقر ويُقصي ويُنهك الإنسان حتى ينهار من الداخل.
مع رحلته في القطار يلتقي منصور بشخصية أخرى؛ إلياس نخلة، المزارع الحالم المحب لزراعة الأشجار، المتمسك بذاكرة الأرض، والذي يرى في الأشجار ألوان الحياة ونبضها، ولكن أهل قريته اختاروا قطيعة الذاكرة، فاقتلعوا الأشجار، وزرعوا القطن مكانها؛ من أجل ربح مادي سريع “كنتُ آكل الرغيف وأنا أنظر إلى الأشجار البعيدة، لم أكن اتمنى شيئاً في ذلك الوقت سوى أن أستظل تحت شجرة من تلك الأشجار”.
بهذه اللقاءات يستثمر منيف تباين الشخصيات والديانات؛ ليؤكد أن الألم والمشقة وغير ذلك من المآسي هي مصير مشترك لكل مواطن من أي طائفة كان، فهي لا تميز بين أحد.
كانت الرمزية حاضرة وكثيفة، فالقطار هنا ليس وسيلة تنقّل عادية، بل رمزاً للعبور بين الحياة والموت، بين الماضي والمستقبل، وبين الوطن والمنفى. أما الأشجار، فهي رمز للحياة والخصب والأمل، في حين يرمز اغتيال مرزوق إلى موت الإنسان العربي البسيط؛ نتيجة القمع والاستبداد والخذلان والبطالة.
مرت عقود على نشر هذه الرواية وما زالت مرآة صافية تعكس كثيراً من صور واقعنا، فالشباب العربي اليوم يواجه أبواباً مغلقة وأحلاماً تموت قبل أن تُولد، كما واجه منصور ذلك من قبل، فهو يسعى ولا يجد فرصة عمل تليق به، ولا وطنا يحتضنه، فيلجأ لهجرة أبدية.
كانت هذه الرواية أكثر من عمل أدبي، إنها شهادة مكتوبة على خيباتنا المستمرة، وتجسيد لمعاناة الإنسان العربي الباحث عن جذور وطن وكرامة وأفق مفتوح، ستظل تُقرأ، لأن ما تصفه لم ينتهِ بعد، وما ترمز إليه ما زال يعشعش في حياتنا وكل لحظاتنا.