سياسة

حزب البعث والمكون السوري التركماني: تاريخ من التهميش والإقصاء

أغسطس 17, 2025

حزب البعث والمكون السوري التركماني: تاريخ من التهميش والإقصاء

الكاتب: وسيم طوقتلي

 

 

لقد وُسم تاريخ سوريا المعاصر بإيديولوجيا البعث، هذه الإيديولوجيا التي خلقت سلطة سياسية قوية في البلاد، ورغم كل الفضائل التي تجسدت في مواضع هنا وهناك، كانت آثار هذه الإيديولوجيا لبعض الأشخاص والمكونات قاتمة وسلبية ومؤلمة. علينا ألا ننسى أن “التعددية المجتمعية” لا تقتصر على سوريا وحدها، بل يمكن أن نراها بأشكال وصيغ مختلفة في مختلف المجتمعات حول العالم.

 

سوريا، عبر تاريخها كله، كانت وطناً تعايشت فيه مجموعات عرقية ودينية وثقافية متعددة، ومن بين هذه المكونات يبرز المكون التركماني السوري كأحد مكونات سوريا الأصيلة والأقدم، إلا أن هذا الوجود التاريخي لم يكن له أثر إيجابي على التركمان السوريين، بل على العكس، تعرض هذا المكون لتهميش قاسٍ، خصوصاً في ظل حكم حزب البعث الذي عمل على إقصاء الهوية التركمانية من المشهد السوري.

 

لم تكن المسألة مقتصرة فقط على السياسة أو التمثيل الرسمي، بل شملت أيضاً الثقافة واللغة وحتى حق التعبير عن الذات. فمثلاً، منعت الأنظمة المتعاقبة أي نشاط ثقافي تركماني مستقل، وتم منع تدريس اللغة التركمانية في المدارس أو استخدامها في الإعلام، بل إن سياسة البعث الصارمة كانت أحد الأسباب الرئيسية لحرمان التركمان من تعليمهم، وحرمانهم من توثيق هويتهم الثقافية، مما كان أحد أهم العوامل التي أدت إلى اندثار ثقافة تعود لمئات السنين.

 

إضافة إلى ذلك، غابت سياسة “الإصلاح الزراعي” عن بعض المناطق الملكية الخاصة بهم، ما خلق حالة من الاستيلاء على الأراضي التي كانت تعود ملكيتها للتركمان، وضُمّنت إلى خزينة الدولة بشكل قسري. هذا التهميش الاقتصادي ترافق مع حرمان من الوظائف العامة وغياب كامل عن مواقع السلطة وصناعة القرار، حتى في المناطق التي تعد ذات غالبية تركمانية.

 

فنفّذت السلطات البعثية نظام استيعاب، جاء في إطار خطة محكمة تهدف إلى سلب ثقافة المكون السوري التركماني في سوريا وسلخه تماماً عن هويته. وقد فشلت هذه الخطط مراراً وتكراراً، لكنها لم تنجح أيضاً في تحقيق هدفها بالكامل. رغم ذلك، استطاعت تنفيذ الخطة جزئياً على بعض من المكون السوري التركماني المحروم من مراكز القرار. أما في المناطق الريفية التي يعيش فيها التركمان غالباً، فكانت مخططات التهميش أشد، لعدم وجود تمثيل سياسي أو حزبي يقيهم العزلة.

 

وعندما لم تنجح أدوات حزب البعث في استئصال طريق الثقافة، لجأ النظام لقطع صلة التركمان السوريين بتاريخهم، وقد تم تشكيل الإدارات المحلية بشكل خاص، وفرضت قيوداً حتى على أسماء القرى والبلدات التركمانية، وكان وما زال هذا التهميش محدوداً جداً على المستوى الصُلب.

 

ومع تصاعد التفاعل الإقليمي مع الثورة السورية، بدأت مختلف المكونات تطالب بحقوقها في التمثيل، بينما ظل التركمان يكافحون دون أن تُوفر لهم فرصة للظهور أو لصنع القرار. ورغم التحولات، بقيت مؤسسات مثل “المجلس التركماني السوري” دون تأثير حقيقي، وقدرة أقل من الطموح على تمثيل التركمان السوريين في حكومة أو هيئة سياسية فاعلة. كما أظهرت بعض التشكيلات السياسية في المعارضة السورية فشلاً في إطلاق خطط استراتيجية لهذا الاتحاد.

 

من الواضح أن هناك جهات ما تزال تُقصي التركمان السوريين، وبعض الأشخاص يسايرونها لتحقيق أهداف معينة. التركمان السوريون يعانون من ضعف المؤسسات، ومن الانقسام الداخلي، ومن مشاكل سياسية وأيديولوجية واقتصادية، والسبب الرئيسي في ذلك هو بقاء الشخصيات ذات العقلية البعثية في موقع القرار.

 

إن التهميش الذي مارسه حزب البعث بحق المكون التركماني لم يكن عابراً أو عشوائياً، بل كان جزءاً من سياسة منهجية متكاملة، شملت تغييب الهوية، وتفكيك الوجود، وتشويه الذاكرة الجماعية، من خلال التعليم والإعلام والإقصاء السياسي والتمييز الجغرافي. هذا التهميش تراكم لعقود، وأسهم في تقليص دور التركمان في الدولة والمجتمع، رغم كونهم أحد أعرق المكونات السورية وأكثرها التزاماً بالوطنية.

 

ومع انطلاقة الثورة السورية، برزت فرصة تاريخية لتصحيح هذا الظلم التاريخي، غير أن الفرصة لم تُستثمر بالشكل الكافي، بل ظل التركمان يعانون من التهميش ذاته حتى في بعض تشكيلات المعارضة، ما زاد من تعقيد الأزمة. لذلك، فإن بناء سوريا جديدة لا يمكن أن يكتمل دون تبني مشروع وطني جامع، يعترف بالمكون التركماني كشريك أصيل، ويمنحه حقه الكامل في التعليم، والتمثيل السياسي الحقيقي، والمشاركة في صنع القرار، والتنمية المتوازنة في مناطقه.

 

إن تجاهل هذه الحقوق سيقود الوضع الراهن إلى المزيد من القطيعة بين الدولة والمجتمع، وسيخلق فراغاً تستغله أطراف خارجية لأجنداتها. أما الإنصاف والمشاركة، فهما الطريق الأوحد نحو الاستقرار الحقيقي. إن مستقبل سوريا الديمقراطية يجب أن يُبنى على قاعدة الاعتراف بعدالة مطالب كل مكون، دون استثناء أو تهميش.

شارك

مقالات ذات صلة