Blog
هناك أفلام تأسر القلب بهدوء، وتترك فيه أثرًا لا يزول، لأنها تقدّم تجربة صادقة ومتكاملة، تجعل كل مشهد ينبض بالحياة، وفيلم “بونيو” للكاتب والمخرج “هاياو ميازاكي” هو واحد من هذه الأفلام النادرة، التي تفتح لك بوابة على عالم طفوليّ حالم، تتداخل فيه الأسطورة مع البراءة، والخيال مع التفاصيل اليومية البسيطة.
تبدأ أحداث الفيلم في أعماق البحر، حيث تعيش سمكة ذهبية صغيرة تدعى “بونيو” مع والدها “فوجيموتو”، الساحر الذي يحرص على الحفاظ على توازن البحر، و”بونيو”، كأي طفلة صغيرة، تنجذب نحو المجهول، فتغامر بالصعود إلى السطح، ويلتقطها طفل في الخامسة من عمره يُدعى “سوسكي”، ويحتفظ بها في دلو ماء، ويعاملها كما لو كانت كنزه الثمين.
تبدأ “بونيو” بالتحوّل إلى طفلة بشرية، ويُطْلِق ذلك شرارة من الأحداث المتسارعة التي تهدّد بإخلال التوازن الدقيق بين عالمي البحر والبر، وهنا يواجه الجميع سؤالًا حاسمًا: هل ستعود “بونيو” إلى موطنها في أعماق البحر، أم ستبقى إلى جانب “سوسكي” على اليابسة، ولو كان ثمن ذلك أن تترك عالمها إلى الأبد؟
من الواضح أنّ الفيلم استلهم فكرته الأساسية من قصة “الحورية الصغيرة” للكاتب الدنماركي الشهير “هانس كريستيان أندرسن”، لكن أوجه التشابه بين القصتين تكاد تتوقف عند نقطة الانطلاق: “كائن بحري يتوق إلى العيش على اليابسة”.
في قصة “الحورية الصغيرة” تدفع الحورية ثمن حبّها باهظًا، وتفقد حياتها في نهاية مأساوية، لتغدو القصة تأمّلًا حزينًا في التضحية والخسارة، وفي الحب الذي يولد محكومًا عليه بالهلاك، أما “هاياو ميازاكي” فقد أعاد صياغة القصة بروح مختلفة تمامًا، حيث أزاح المأساة جانبًا، واستبدلها ببراءة الطفولة، وحوّل التضحية إلى احتفاء بالحياة، بأسلوب مقارب لفيلم الأنيميشن الرائع “The Little Mermaid” الذي أنتجته شركة “ديزني” في عام 1989 بتغيير جذري على القصة الأصلية ونهايتها المأساوية.
جزء من قوة الفيلم يكمن في غياب الشر المطلق، بينما في معظم أفلام الأطفال نرى حدودًا صارمة بين الأخيار والأشرار، ولكن “هاياو ميازاكي” يدرك أنّ الحياة أكثر تعقيدًا، وأنّ من يقف في طريقك قد يفعل ذلك بدافع الحب أو بدافع الخوف، لا بدافع الكراهية، وهذا ما يضفي على الفيلم بعدًا إنسانيًا عميقًا، لأنّه يعكس الحقيقة الجوهرية للصراعات في الحياة، فهي ليست دائمًا مواجهة بين خير وشر، بل أحيانًا صراع بين رغبتين متناقضتين، بين الحماية والحرية، وبين الأمان والمغامرة. الموسيقى التصويرية المذهلة لـ “جو هيسايشي” هي قلب الفيلم النابض، حيث تحمل عفوية الطفولة في بساطتها ورقتها، وتوقظ الحنين في أعماق الروح.
بلغت ميزانية إنتاج الفيلم 34 مليون دولار، وحقّق نجاحًا منقطع النظير بإيرادات تزيد عن 206 مليون دولار في شبّاك التذاكر في اليابان وبقية دول العالم، ليكون واحدًا من أنجح أفلام ستوديو جيبلي، ومع ذلك تم تجاهله في جوائز الأوسكار، ولم يترشّح لجائزة أفضل فيلم أنيميشن، رغم أنّه فيلم الأنيميشن الأفضل في عام 2008 بلا منازع.
في النهاية لا يهم إذا كانت القصة منطقية تمامًا أو لا، لأن السحر الحقيقي لا يكمن في ترابط الأحداث، بل في الأثر الذي تتركه داخلك. إنه شعور بأنك عشت شيئًا حقيقيًا، لا بالمعنى الواقعي الملموس، بل بالمعنى العاطفي الخالص.. ذلك الشعور الذي يعيدك، ولو للحظة عابرة إلى زمن كنت ترى فيه العالم بعيني طفل، حين كان كل شيء يشرق أمامك كاكتشاف جديد، مدهشًا في بساطته، ومفتوحًا على احتمالات لا تنتهي.