سياسة

اقتصاد الظل في سوريا: من البقاء على قيد الحياة إلى اقتصاد بديل موازٍ

أغسطس 15, 2025

اقتصاد الظل في سوريا: من البقاء على قيد الحياة إلى اقتصاد بديل موازٍ

منذ اللحظة التي انزلقت فيها سوريا إلى أتون الحرب عام 2011، بدأ الاقتصاد الرسمي يتهاوى بوتيرة متسارعة. المصانع التي كانت تشكل العمود الفقري للإنتاج الوطني أغلقت أبوابها، والمرافئ فقدت زخمها، وسلاسل التوريد التقليدية انهارت تحت وطأة المعارك والعقوبات. الليرة السورية، التي كانت تحمل رمزاً للسيادة الوطنية، تدهورت حتى فقدت أكثر من 99% من قيمتها، الأمر الذي أفقد المواطن السوري قدرته على شراء ما كان يعدّ قبل الحرب من أساسيات الحياة. وسط هذا الخراب، نشأ كيان اقتصادي موازٍ، غير مرئي على الورق الرسمي لكنه ملموس في حياة الناس اليومية: اقتصاد الظل. هذا الاقتصاد لم يولد من فراغ، بل جاء رد فعل جماعي على انهيار الدولة، فبات يؤمن الغذاء والدواء والوقود حينما عجزت القنوات الرسمية عن ذلك.

 

 

جذور التمدد وأسباب البقاء

اقتصاد الظل في سوريا لم يكن غريباً عن الواقع قبل الحرب، لكنه كان محصوراً في أنشطة صغيرة تكمل دخل الأسر، مثل البسطات والعمل الموسمي. إلا أن الحرب قلبت المعادلة، إذ تحولت هذه الأنشطة إلى بنية اقتصادية قائمة بذاتها. انهيار المؤسسات الرسمية حرم الدولة من القدرة على تقديم الخدمات وضبط الأسواق، فترك فراغاً ملأته المبادرات الفردية، لكن هذه المبادرات لم تكن مجرد محاولات عفوية، بل تطورت إلى شبكات واسعة لها أسواقها ومورديها وأنماط تمويلها.

 

الحصار والعقوبات المفروضة على سوريا عمّقت هذا المسار، إذ دفعت إلى انتشار التهريب عبر الحدود مع لبنان والعراق وتركيا، وأوجدت قنوات بديلة للاستيراد عبر مناطق خارجة عن سيطرة الحكومة. ومع تراجع فرص العمل في القطاعات الرسمية، لم يجد ملايين السوريين خياراً سوى الانخراط في هذا الاقتصاد غير المسجّل، سواء عبر التجارة الصغيرة أو الحرف المنزلية أو حتى العمل عن بعد في فضاءات رقمية خارج رقابة الدولة.

 

 

بين شريان الحياة ومصدر الفوضى

هذا الاقتصاد الموازي، رغم أنه كان بمثابة شريان حياة لكثير من العائلات، أرسى قواعد فوضى اقتصادية يصعب تفكيكها. فالمواد التي تدخل الأسواق عبر هذه القنوات لا تخضع لمعايير الجودة أو السلامة، والأسعار تُحدد في أسواق سوداء تتحكم بها شبكات من التجار والمضاربين، لا يربطهم بالمستهلك سوى منطق الربح السريع. في الوقت ذاته، أصبح جزء من اقتصاد الظل محمياً من قبل قوى محلية أو مليشيات، الأمر الذي جعل أي محاولة للرقابة أو الإصلاح محفوفة بالمخاطر. 

 

النتيجة هي بيئة اقتصادية تتسم بالانقسام وعدم المساواة، حيث تستطيع الفئات المرتبطة بشبكات النفوذ أن تراكم الثروة، بينما تتآكل قدرة الفئات الأخرى على مواكبة الأسعار.

 

 

من اقتصاد مكمّل إلى اقتصاد منافس

لم يعد اقتصاد الظل مجرد مساحة هامشية أو رديفاً للاقتصاد الرسمي، بل تحوّل في كثير من المجالات إلى منافس يفرض شروطه. أسعار الوقود، على سبيل المثال، لم تعد تُحدد بناء على نشرات وزارة النفط، بل وفق ما تمليه السوق السوداء. تجارة المواد الغذائية المستوردة لم تعد تمر عبر الموانئ الرسمية وحدها، بل عبر قنوات تهريب باتت أكثر كفاءة وسرعة. حتى الحوالات المالية من الخارج، التي تمثل شريان حياة للملايين، أصبحت تُنجز في مكاتب غير رسمية تقدم أسعار صرف أفضل من تلك المعتمدة في البنوك، ما أدى إلى تآكل مكانة المؤسسات المالية الرسمية. 

 

هذه التحولات تعكس واقعاً مقلقاً، إذ بات الاقتصاد الرسمي يخسر مساحاته لصالح منظومات ظل تملك مواردها وأدواتها، وأحياناً تحظى بدعم ضمني من داخل أجهزة الدولة نفسها عبر شبكات الفساد.

 

 

الأبعاد السياسية للظاهرة

البعد السياسي لاقتصاد الظل يتجاوز مسألة الإيرادات أو الأسعار، إذ يمس جوهر سيادة الدولة. ففي مناطق السيطرة المتعددة، أصبح اقتصاد الظل أداة رئيسية لتمويل قوى الأمر الواقع، سواء عبر فرض الضرائب غير الرسمية على البضائع المارة بالمعابر، أو من خلال السيطرة على شبكات توزيع السلع. هذه القوى تستخدم عائدات الاقتصاد غير الرسمي لترسيخ سلطتها، ما يخلق دوائر نفوذ مغلقة لا تخضع لأي مساءلة وطنية. كما أدى تفكك السوق السوري إلى تكوين شبكات اقتصادية منفصلة بين المناطق، الأمر الذي يهدد بإدامة الانقسام الجغرافي حتى في حال الوصول إلى تسوية سياسية، لأن إعادة دمج هذه الشبكات في اقتصاد وطني موحد ستكون معركة معقدة بحد ذاتها.

 

 

التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية العميقة

التداعيات الاقتصادية لانتشار اقتصاد الظل خطيرة على المدى الطويل، إذ يؤدي إلى تآكل القاعدة الضريبية التي تعتمد عليها الدولة لتمويل خدماتها، ويشوه بنية السوق بحيث تصبح الأسعار والسلع رهينة لتقلبات التهريب والمضاربة. كما أنه يعوق أي إمكانية للتخطيط الاقتصادي، لأن حجم الأنشطة وأرباحها يظل خارج نطاق البيانات الرسمية. على الصعيد الاجتماعي، ساهم هذا الاقتصاد في خلق فجوة طبقية غير مسبوقة، حيث تمكنت قلة من استغلال الفوضى لتحقيق مكاسب ضخمة، فيما غرقت الأغلبية في سباق يومي لتأمين احتياجاتها الأساسية.

 

 

نحو دمج تدريجي بدل المواجهة المباشرة

محاولة القضاء على اقتصاد الظل بضربة واحدة ليست ممكنة ولا واقعية في السياق السوري الحالي، بل قد تأتي بنتائج عكسية تدفع الناس أكثر نحو القنوات غير الشرعية. الخيار الأكثر عقلانية هو اتباع استراتيجية دمج تدريجي، تبدأ بإضفاء الشرعية على بعض الأنشطة غير الرسمية عبر تبسيط إجراءات الترخيص ومنح حوافز مثل الإعفاءات الضريبية المؤقتة أو توفير القروض الصغيرة لرواد الأعمال الصغار.

 

بالتوازي مع ذلك، يجب إصلاح النظام الضريبي بحيث يكون منخفض العبء لكنه شامل، ما يتيح للدولة استعادة جزء من مواردها دون دفع الناس إلى التهرب. تحسين بيئة العمل الرسمي عبر محاربة الفساد وتخفيف البيروقراطية يمثل شرطاً أساسياً، إذ لا يمكن أن يتخلى الناس عن الاقتصاد غير الرسمي ما لم يكن البديل أكثر أماناً وربحية. وفي هذا السياق، يمكن التعاون مع منظمات دولية لإعادة توجيه جزء من اقتصاد الظل نحو قطاعات إنتاجية مستدامة، مثل الزراعة والصناعات الخفيفة، بدل أن يظل محصوراً في الاستيراد والتهريب.

 

اقتصاد الظل في سوريا هو نتاج مباشر لانهيار الدولة والحصار والحرب، لكنه في الوقت نفسه دليل على مرونة المجتمع وقدرته على التكيف مع أقسى الظروف. المشكلة تكمن في أن هذا الاقتصاد، إذا تُرك لينمو بلا ضوابط، قد يتحول من شبكة إنقاذ إلى شبكة خنق تعيق أي تعافٍ اقتصادي حقيقي. إدماجه في مشروع وطني لإعادة الإعمار ليس مجرد خيار اقتصادي، بل هو ضرورة سياسية لإعادة بناء العقد الاجتماعي وترميم الثقة بين الدولة والمجتمع. في النهاية، يظل السؤال الحاسم: هل تستطيع سوريا تحويل طاقة البقاء التي ولّدها اقتصاد الظل إلى طاقة بناء تعيد إليها وحدتها الاقتصادية والسياسية؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد ليس فقط مستقبل الاقتصاد السوري، بل مستقبل البلاد بأكملها.

شارك

مقالات ذات صلة