سياسة
في الأسبوع قبل الماضي، تلقّى العالم نبأ اغتيال “بيليه الفلسطيني” –سليمان العبيد- على يد قوات الاحتلال الإسرائيليّ، في مشهدٍ فجّ دفع حتى لاعبًا عالميًّا مثل محمد صلاح –الذي كان يحاذر الاصطدام بالآلة الإعلاميّة الغربيّة الموالية لإسرائيل– إلى كسر صمته. وبعد أيامٍ قليلة، جاء خبر تصفية الصحفيّ الفلسطينيّ أنس الشريف، بكلّ بساطةٍ وبلا محاكمة أو مبرّر، فقط لأنّ صوته أزعج آلة الاحتلال، فقررت شطبه من الحياة وكأنّه لم يكن.
هذه الحوادث ليست سوى فصل صغير من سلسلةٍ طويلة: آلاف الشهداء من أطفالٍ ونساءٍ وشيوخ ورجال في غزّة، اغتيالات تستهدف القادة العسكريّين والمدنيّين في لبنان، قصف دوريّ للأراضي السوريّة، وحرب معلنة استمرت 12 يومًا على إيران شملت اغتيال قادتها، بل حتى الحديث علنًا عن احتمال تصفية المرشد الأعلى الإيراني – وكأنّ المسألة أمرٌ طبيعيّ في قاموس العالم. لقد أصبح مألوفًا أن نسمع عن إسرائيل وهي تُحدّد من يعيش ومن يموت، متى وأين، من صحفيٍّ فلسطينيّ إلى قائدٍ عسكريّ، من طفل في غزّة إلى شخصية سياسيّة في طهران، في ظلّ صمتٍ دوليّ وتواطؤ غربيّ يجعل الفلسطينيّ أقلّ قيمة من أن يُحسب على البشر.
هنا يبرز التقاطع المرير: قدرة إسرائيل على ممارسة الإبادة ومحو أصحاب الأرض من الوجود اليوم، هي ذاتها القدرة التي مارستها القوى الاستعماريّة الغربيّة عبر خمسة قرون مضت ضدّ شعوب أفريقيا وآسيا والأمريكتين. المفارقة الصارخة أنّ اليهود الذين وفدوا إلى فلسطين قبل عقودٍ لاجئين يبحثون عن حماية، صاروا اليوم يكرّرون المشهد ذاته ضدّ أهل الأرض الأصليّين، أمام أنظار العالم ورضاه الصامت– تمامًا كما فعل الغرب الذي يرعاهم الآن أينما حلّ.
إنّ المرحلة التاريخيّة الممتدّة لخمسة قرون من هيمنة الغرب، المشبعة بعقائد التفوق العرقي والنزعات الإقصائيّة، كانت بالنسبة لشعوب كثيرة تجربة مرعبة اتسمت بالعبوديّة، والفصل العنصريّ، والاستعمار المباشر، ثمّ الإمبرياليّة الحديثة.
لكي يستوطن البريطانيّون في الولايات المتحدة وأستراليا ونيوزيلندا، كان “الشرط” – في منطقهم ـ إبادة السكان الأصليّين لأنّ “المكان لا يتسع للجميع”. ولكي يستوطن الفرنسيّون جزيرة “لا ريونيون”، كان لزامًا – في رؤيتهم– القضاء على السكان الأفارقة المحليّين بحجة ذاتها.
أما جزر الكناري الأفريقيّة، ذات الأصول الأمازيغيّة، فقد عاشت عليها شعوبها منذ القرن الخامس قبل الميلاد حتى أبادها التاج القشتاليّ الإسبانيّ بين عامي 1402 و1496، بدعوى أنّ “الأرض لا تتّسع للجميع”، لتصبح اليوم – في 2025– جزءًا من أراضي الاتحاد الأوروبي. الأمر لم يختلف كثيرًا في ناميبيا؛ إذ يهيمن المستوطنون الألمان البيض على الاقتصاد والزراعة بعد أن أبادوا قبائل الهيريرو والناما، ولم يتوقفوا إلّا حين احتاجوا لبقاء الأفارقة كيد عاملة بالسخرة، وهو السيناريو ذاته الذي شهدته زمبابوي.
وفي جنوب أفريقيا، كانت القصة أكثر وضوحًا: البريطانيّون سيطروا على الأرض والبشر، وأقاموا نظام فصل عنصريّ لم يسقط إلّا بنضال نيلسون مانديلا ورفاقه في حزب المؤتمر الوطني الأفريقيّ. أما التحرّر الاقتصاديّ، وخاصة في قطاع الزراعة، فما زال بعيد المنال، إذ تملك الأقلّية البيضاء المنحدرة من سلالة المستعمرين نحو 75% من الأراضي الزراعيّة الخصبة. واليوم، في عام 2025، بينما تحاول جنوب أفريقيا تحقيق العدالة عبر إعادة توزيع الأراضي بما يكفل الإنصاف للجميع – دون طرد أحفاد المستعمرين بل عبر الشراكة– يخرج دونالد ترامب وإدارته لاتهامها بأنّها تمارس “إبادة جماعيّة” ضدّ البيض، مستعينًا بصورٍ لمجازر وقعت في دول أفريقيّة أخرى، ارتكبتها غالبًا ميليشيات تعمل لصالح شركات أمريكية.
إنّ المشهد الفلسطينيّ اليوم ليس معزولًا عن هذا الإرث؛ فالإبادة، حين تجد سندًا سياسيًّا وعسكريًّا وإعلاميًّا، تصبح سياسة مُباحة في عيون القوى المهيمنة. وما تفعله إسرائيل في غزّة اليوم، هو الامتداد العصريّ لمسارٍ طويل من المحو، والتطهير، والسيطرة، الذي رسمه الغرب عبر القرون، وأورثه لحلفائه الحاليين.
من غزّة إلى إفريقيا: تحذيرات من وهم الحصانة التاريخيّة
ما دفعني إلى الانطلاق من هذه المقارنة أمران مترابطان:
أولًا: حين أسمع بعض القادة السياسيّين في أفريقيا ينأون بأنفسهم عن المجازر الجارية في غزّة، وكأنّها شأنٌ محصور بين الإسرائيليّين والفلسطينيين، أو حين أجد من يعتقد أنّ مثل هذه الفظائع لن تتكرّر في قارتنا بعد قرون من الاسترقاق والاستعمار، بدعوى أنّ “الزمن تغيّر”، أُدركُ أنّ هذا التفكير شديد السذاجة ويفتقر إلى أبسط أشكال التحليل الاستنتاجيّ أو المنطقي. فالمشهد في غزّة، وهو قائمٌ أمام أعين العالم، يجد من يبرّره سياسيًّا وإعلاميًّا، وهذا بحد ذاته يعني أنّ حدوث سيناريو مشابه في أفريقيا ليس مستبعدًا، بل واردًا، سواء على يد فرنسا أو بريطانيا أو الولايات المتحدة أو حتى إسرائيل، مع توفر الذرائع والمبرّرات ذاتها.
والأدهى أنّ إسرائيل، التي جاءت إلى فلسطين لاجئة ثمّ سيطرت على الأرض، ترفض اليوم حتى المبادرة العربية لعام 2002 التي تطالبها بالتنازل عن ثلث الأرض للفلسطيّنيين. إذا كان هذا هو موقفها مع قضية قائمة على مرأى العالم، فما الذي يمنعها من اجتياح دولة أفريقيّة مستقبلًا تحت أي غطاء – سواء “محاربة معاداة السامية” أو حماية اليهود أو مواجهة تهديد إيرانيّ– بينما يقف العالم متفرجًا، كما يحدث اليوم مع لبنان وسوريا، وكما حدث مؤخرًا مع إيران؟. وقد يرى البعض أنّ الحديث عن عودة الاستعمار إلى أفريقيا بأساليبٍ جديدة على غرار ما يجري في غزّة نوع من المبالغة، لكن التفكير وفق هذا السيناريو يحقق هدفين حاسمين:
ثانيًا: هناك فئة من المثقفين الأفارقة وقعت في فخّ الاعتقاد بأنّ الغرب لـ “شعوره بالذنب” ولسيادة القيم المنشودة راهنًا من حقوق إنسان وحريات وعدالة، وأنّ أوروبا بالتحديد تعيش عقدة الذنب تجاه أفريقيا نتيجة ماضيه الاستعماري وجرائم الاسترقاق، وبالتالي فإنّ ابتعاد أفريقيا عن الصراعات الدوليّة سيجعلها بمنأى عن أيّ تدخلٍ أو احتلالٍ مباشر ناهيك عن تكرار إبادة جماعيّة في القارة.
لكن ما يغيب عن هؤلاء هو أنّ الغرب الذي يستطيع تعطيل مبادئه وحقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، ويتغاضى عن المجازر ويُخرس الإعلام النقديّ، هو نفسه الذي سيكون قادرًا – إذا اقتضت مصلحته، وخاصة إذا اقترب من فقدان هيمنته لصالح قوى صاعدة كالصين– على تكرار هذا التعطيل لتبرير غزو أو إخضاع دولة أفريقيّة تحت مسمّيات مختلقة لنهب مواردها بصورةٍ مباشرة. فمن يتنازل عن قيمه مرة سيتنازل عنها مرات متتالية، وهذا وحده كافٍ لإثبات أنّ مآسي الماضي قابلة للتكرار متى ما توافرت الظروف، وأنّنا لم نتعلّم الدرس بعد.
ختامًا، أودّ أن أذكر بمقولة فلاديمير لينين في مؤلفه الشهير الدولة والثورة: «قد يحدث أن تهبط النسور إلى مستوى الدجاج، لكن الدجاج لن يرقى يومًا إلى مستوى النسور». هذه العبارة، التي جاءت في سياق رؤيته للشيوعيّة كمنظومةٍ سياسيّة واقتصاديّة ترمي إلى إلغاء الفوارق الطبقيّة، تحمل أكثر من معنى. فهي من جهة توصيف ساخر لفوارق القوة والهيمنة، ومن جهةٍ أخرى نقد صارخ لثبات البنية الطبقية وعجز الفئات المهمشة – في ظلّ النظام القائم– عن بلوغ مستوى النخب، مهما كانت طموحاتها.
وعلى المسرح السياسيّ الأفريقيّ، تتجلّى المقولة بوجهها الأكثر قتامة. فالتربة السياسية هنا شديدة الهشاشة، ويهيمن عليها فاعلون سياسيّون غارقون في التفاؤل وانعدام الرؤية، وعلى استعداد لبيع مواقفهم ومصالح أوطانهم مقابل فتات – وظيفة رفيعة، أو امتياز اقتصاديّ، أو ضمان مستقبل الأبناء– حتى لو كان الثمن هو التفريط في المصلحة العامة للقارة.
في مثل هذه البيئة، تغيب تمامًا المساحة التي يمكن أن تُكرَّس للمصلحة المشتركة، سواء كانت وطنيّة أو إنسانيّة. ويصبح من الطبيعيّ أن يُهمل صوت التحذير القادم من غزّة، وأن يُتعامل معه وكأنّه شأنٌ بعيد لا يخصّ القارة. لكن العجز عن إدراك أنّ ما يحدث في غزّة هو جرس إنذار لأفريقيا – القارة التي عرفت كلّ أشكال الاضطهاد– ليس مجرّد قصور نظر، بل هو سذاجة سياسيّة مميتة. فالتعويل على ما يسمّى “الشعور بالذنب” الأوروبيّ كمظلة حماية ضدّ تكرار مجازر أو إبادة جماعيّة في أفريقيا، هو رهانٌ على سراب.
طبعًا هنالك استثناء. لكن الاستثناءات نادرة، وأبرزها جنوب أفريقيا، التي تملك ذاكرة سياسيّة حيّة عن نظام الفصل العنصريّ الغربيّ الذي عاشته. وهي الدولة التي قرأت بوضوح أوجه التشابه بين ما يحدث في غزّة وما تعرضت له في الماضي، ولذلك اختارت المواجهة عبر بوابة القانون الدوليّ، منخرطة في ملاحقة إسرائيل أمام المحاكم الدوليّة. إمّا أن نتعلّم منها أو نعيش مآسينا من جديد.




