سياسة

وبينهما أشكالٌ أخرى من المعارضة..

أغسطس 13, 2025

وبينهما أشكالٌ أخرى من المعارضة..

في مقال الأسبوع قبل الماضي كتبت عن “المعارضة الوظيفيّة النصّابة”، وفي مقال الأسبوع الماضي كتبت عن “المعارضة الحقيقيّة الجادّة“، وفي هذا الأسبوع أكتبُ عن أشكالٍ أخرى من المعارضة التي لا تشبه الأولى في وضاعتها وحقارتها، لكنّها لا تصل إلى مرتبة الثانية في رؤيتها ومسؤوليّتها، ومن بين أهم تلك الأشكال: المعارضة اليائسة، والمعارضة الاحتجاجيّة، والمعارضة الناعمة، والمعارضة المنفلتة.


أمّا المعارضة اليائسة، فتلك التي لا ترى أنّ هناك أيّ جدوى من بذل واجبها في اتجاه محاولات الإصلاح أو التغيير إمّا لعدم قدرتها من الأساس على القيام بأيّ دور، أو لتقديرها بأنّ ليس هناك أدنى فرصة أو أضعف أمل أن يكون لفعلها نتيجة أو مردود يمكن أن تتقبّله وتبني عليه، بحيث تبقى تحاول وحدها أو مع غيرها، لتصل مع الوقت واستمرار الجهد واكتساب ثقة نسبةٍ أكبر من المواطنين إلى نتائج أفضل في طريق ليس سهلًا بالتأكيد في مثل الحالة التي تحكم بلدنا اليوم، والتي لا تنتمي إلى العصر الذي نعيشه، ولا التضحيات التي قدّمها المواطنون، ولا المكانة التي يستحقّها الوطن.

وأمّا المعارضة الاحتجاجيّة فهي تلك التي تكتفي برفض مجمل سياسات وقرارات السلطة، ولا تتخذ بناءً على ذلك أيّة خطوات في اتجاه محاولة تغيير تلك السلطة سواء بمفردها أو بالتحالف مع من يشاركها نفس الهدف، ولا يعني ذلك إنكار حقّ أيّ مواطنٍ في أن يكتفي بالاعتراض وفقط، لكن الأفضل -إذا أمكنه ذلك في نطاق تخصصه العلمي أو خبراته العمليّة– أن يفكر ويقترح البديل لما يشكو منه أو يعترض عليه ويرفضه، وهذه الأفضلية بالنسبة للمواطن الفرد تتحوّل إلى واجبٍ بالنسبة للتنظيمات السياسيّة والحزبيّة، والتي من مجموعها (في السلطة والمعارضة والمستقلين) يتكون النظام السياسيّ الذي تنصّ المادة الخامسة من الدستور على أنّه يقوم على أساس التعددية السياسيّة والحزبيّة ومبدأ التداول السلمي للسلطة.

وبالنسبة للمعارضة الناعمة فتلك التي تتحرّك في مساحاتٍ آمنة وتعمل تحت أسقف منخفضة سواء اختارت ذلك لنفسها طلبًا للأمان من البطش واتقاءً للأذى، أو التزمت في ذلك بالمساحة والسقف الذي تضعه لها السلطة، استجابة لأوامر وتجنبًا لمغارم أو طلبًا لمغانم يمكن أن تكون ممّا ليس مستحقًّا، أو حتى للحصول على حقّها في مجرد السماح لها بالتواجد على قيد الحياة السياسيّة دون قمعٍ ومنع. وهنا يلزم التنويه بأنّ أيّ معارضة لأيّ سلطة لا يعني بالضرورة رفضها لكلّ ما تقوم به تلك الأخيرة، وإنّما يكفي أن تختلف معها في التوجهات الأساسية والانحيازات الرئيسية، ولا ينفي عنها صفة المعارضة أن توافق السلطة أحيانًا في بعض سياساتها وقراراتها، لكن ينزع عنها تلك الصفة ويُدخلها صف الموالاة حتى لو ادّعت في نفسها ما تشاء (شأن المعارضة الوظيفيّة النصّابة) أن تتحالف معها في الانتخابات، أو أن تعارضها فقط بالخطابات في الظاهر وتعقد معها الصفقات من الباطن.


في حين تتصرّف المعارضة المنفلتة على غير نسقٍ واضح يرسم ملامحها ويحدّد موقعها من الخريطة السياسيّة، أو أنّها لا تلتزم بقواعد العمل السياسيّ التي يضع حدودها الدستور. فأمّا هذه المنفلتة بمعنى التي لا يمكن توقع ردود أفعالها بسبب تقلّباتها المتكررة وانتقالها من مربعٍ إلى آخر على شكل قفزات فجائية أو حتى عشوائية، فإنّك تجدها أحيانًا تعلن عن نفسها بصورة ما وفي أوقات أخرى تقدّمها مواقفها بصور مغايرة، وغالبًا ما تبرّر ذلك لنفسها بأنّه نوع من المناورات السياسيّة أو الخطوات التكتيكيّة، وهو أمر يمكن تفهّمه أو حتى قبوله فقط إذا ما جاء في حدود ضوابط القيم الأخلاقيّة الأساسيّة والمنطلقات السياسيّة الرئيسيّة، بحيث لا تجد نفسك وكأنّك تشاهد أو تتعامل مع مُهرّجين سياسيّين في سيرك سياسيّ.


بينما تلك المنفلتة بمعنى المتحلّلة من قواعد العمل السياسيّ التي ينصّ عليها الدستور وينظّمها القانون (دون الحرمان من حقّها في العمل على تغيير الدستور والقانون بالطرق التي رسمها كلاهما) فإنّها تدفع باتجاه تحوّل ساحة العمل أو حتى الصراع السياسيّ إلى ما يشبه منطق الغابة التي تحكمها القوة، ولا يعني ذلك بالقطع إقرار التجاوزات والجرائم التي ترتكبها، والتي يمكن أن ترتكبها السلطة، ولكن ذلك يعني الأدوات المقبولة في مواجهة كلّ ذلك، إذ إنّ الفعل إذا جاء منفلتًا من المبادئ العامة للعمل السياسي متجاوزًا الدستور مخالفًا للقانون، ثم جاء رد الفعل على بعض أو كلّ ذلك بنفس الأساليب، كانت النتيجة فوضى عامة تحدّد طبيعتها ونتائجها غلبةُ القوة لا منطق الحقّ، ويستفيد من ذلك الأقلّية المنتفعة من المتحصنين بسلطانهم، ويدفع ضريبتها الأغلبيّة الكاسحة من المستبعدين والمستضعفين والمظلومين والمحرومين في وطنهم.

شارك

مقالات ذات صلة