Blog
ما زلتُ أذكر ذلك اليوم قبل ١٠ سنين، انتفض العالمُ بأسره. ماذا حدث؟ جريمةٌ نكراءٌ بحقّ ١٢ موظفًا في صحيفة تشارلي إيبدو الفرنسيّة! امتلأت شوارع العالم العربيّ والغربيّ باللافتات : je suis charlie أي “أنا تشارلي” تضامنًا مع الضحايا، مظاهراتٌ ومسيراتٌ تضامنية وحملات إعلاميّة ثأرًا لهم.
أمّا المشهد الأعجب، كان زحفُ رؤساء العالم، أكثر من ٤٠ رئيس دولة وحكومة، تسجيلًا لموقفهم المُستنكِر لهذه البدعة، استهداف الصحفيّين! وهُنا شارك الجميع في هذا التضامن، وفرح صحفيُّو العالم بردّة الفعل الدوليّة، شعروا أنّ لهم سندًا أمميًّا عابرًا للقارات، يحفظُ حياتهم ومساحتهم من الحريّة، حتى وإن تجاوزت بعض الخطوط.
ثمَّ أتى ذلك اليومُ المشؤوم، بعد ٧ سنوات، حيثُ اغتيلت الصحفيّة شيرين أبو عاقلة برصاص جيش نظاميّ يدّعي أنّه الأكثر أخلاقية في العالم، وتسنده كلّ الحكومات المتضامنة مع تشارلي سابقًا بروايته المزعومة. فماذا حدث؟ ترقيعٌ ومطالبة كاذبة بتحقيق شفاف، ومرَّت الجريمة وكأنّ شيئًا لم يكن.
حتى بدأت حربُ الإبادة، حربٌ لا أخلاقَ فيها ولا خطوط حمراء، جولة من الدّموية وانعدام الإنسانيّة وانتهاك الشرائع الدولية بأسرها، مجزرة صحفيّين تجاوزت أعدادهم الـ٢٣٨ صحفيًّا بين مراسل ومصوّر ومساعدين، عدا عن المؤثّرين المتسلّحين بكاميرات هواتفهم. لينضمَّ الصوت والحقيقة لقافلة الشهداء التي تجاوزت الـ٦٠ ألفًا معظمهم من النّساء والأطفال!
أين الرؤساء؟ أين الحكومات؟ أين المنظمات؟ أين المحاكم والشرائع؟ صمتٌ في مكان، وافتراءٌ في أمكنة وترقيع في غالب الأحيان، وكأنَّ شيئًا ما لا يحدث في بقعةٍ محاصرة تُقصَف بكلّ أنواع الأسلحة الفتّاكة الممزِّقة للأجساد والمزهقة للأرواح بلا عدّاد يدقُّ ناقوس خطرٍ في رؤوس أعوان المجرمين.
حتى أتت اللحظة الأقسى على كلّ قلبٍ نابضٍ في غزّة، وكلّ فؤادٍ سليمٍ خارجها، صاروخٌ غادر مزَّق أنس! ورفاق أنس، وكلَّ الطاقم الصحفيّ، في خيمة صحفية، في باحة مستشفى! ٣ جرائم حربٍ في لحظةٍ واحدة!
ما هذا الجنون؟! كيف يحدث هذا ويمرُّ ولا يزلزل أركان هذا العالم الكاذب؟! كيف يكمل الكوكب دورانه الروتينيّ المقيت المطبِّعَ مع الجرائم الفاضحة لهذه الدرجة؟!
لكنّها لحظة ترسيخ الحقيقة لا اغتيالها، حقيقةُ أنَّ ناقل المجازر وصلت إليه المجازر، وناقل الخبر أمسى خبرًا، ليُمعن في فضحِ هذا العالم المنافق المتآمر على الحقّ والحقيقة والثابتين عليهما.
وبينما كانت الدموع تذرف والقلبُ ينزف والعقل يُنكر، وإذ بإشعار باسم “أنس الشريف” طرق قلوب الملايين!
لكن أبى مسمار الحزن إلّا أن يُدقَّ في ما تبقّى من قلوبٍ ممزّقة، إنّها وصيّة أنس، استهلّها قائلًا “هذه وصيّتي الأخيرة” واختتمها قائلًا “لا تنسوا غزّة“.
أنس ورفاقه لا يحتاجون حزننا بل المضيَّ على ما قضوا لأجله، الحقيقة المطلقة. لا يسقطنَّ لواء إعلانها ونحنُ أمة ملياريّة، فاحملوا الأمانة والوصيّة في قلوبكم، وأدّوها حقَّ تأدية، وانتقلوا من التّلقي إلى الإلقاء والتحرّي إلى التحرّك، وأسمعوا العالم بأسره صوت الشهداء، ليقضّ مضاجع الجبناء، وأغيظوهم بفضحهم كما عرّاهم أنس، ومن مع أنس.